على الرغم من أن مصطلح الدكتاتورية الذي يعني بأبسط صوره الحكم الفردي أو الجماعي المتسلط، شاع وانتشر بالتزامن مع بزوغ نور الحضارة اليونانية العريقة، لكنه رافق المجتمعات البشرية مُذْ تأسيسها، حتى ولو اختلفت المسميات والأشكال والأنواع، فالأصل واحد: السيطرة المطلقة على الحكم، مع تهميشٍ شبه كامل لعامة الشعب.
وعبر التاريخ، التصق المصطلح عضوياً بشخصيات وأحزاب، أعادت كتابة التاريخ السياسي برمته، بسبب “الأعمال البربرية” التي قاموا بها طوال فترة تواجدهم في الحكم.
ولن نذهب بعيداً في ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى التي انطلقت في بدايات القرن العشرين، تأسست عدة أحزاب قومية، ولعل أبرزها، الحزب النازي والفاشي، بقيادة كلٍّ من أدولف هتلر، وبينيتو موسوليني، اللذيْن عاثا في الأرض فساداً، وكانا مسؤولين عن ملايين الأبرياء الذين ماتوا بسبب طغيانهم الفاحش.
ولو تفحصنا الحكومات الدكتاتورية وقادتها جيداً، لوجدنا أنها مبنية على عدة قواعد شبكية، معقدة تعقيداً يصعب وصفه، لتحقيق الأهداف المرجوّة، وأهمها الاستمرار في السلطة إلى أطول فترةٍ ممكنة، وذلك كله على حساب الشعب الذي لا يوجد وصف أفضل من أنه ميتٌ سريريًّا في ظلِّ تواجد تلك الحكومات في السلطة.
يقول الروائي البريطاني جورج أورويل (1903 – 1950)، في روايته الديستوبية (1984)، في وصف أعمال الأنظمة الدكتاتورية إنها “لا تقتصر على إعادة بناء الماضي فحسب، بل تزويد عامة الشعب بالصحف والإعلام والإرشاد والتسلية، من التمثال إلى الشعار، ومن القصيدة الغنائية إلى بحوث علم الأحياء، ومن كُتيبات التهجئة الخاص إلى معجم اللغة”، وكلّ هذا وأكثر يتم بما يخدم مصالح النظام الحاكم.
لا يتوقف عمل تلك الحكومات على تزويد احتياجات أعضاء الحزب الحاكم فحسب، بل عليها أيضاً أن تؤدي الدور نفسه، ولكن بمستوى أدنى، لمصلحة البروليتاريا (الطبقة الاجتماعية الكادحة)، فهناك سلسلةٌ كاملة من الأقسام التي تتعامل مع أدب البروليتاريا، وموسيقاهم، ومسرحهم، ووسائل لهوهم بصورةٍ عامة.
ويضيف أورويل، أن الأحزاب الدكتاتورية الحاكمة، لطالما تزعم أنها تُحرر العامة من أغلال العبودية، فقبل الثورة المنشودة، كانوا يلاقون أبشع أنواع الظلام على أيدي الطغاة الذين سبقوهم، كما يُضربون بالسياط ويتضورون جوعاً، وكانت النساء يُكرهن على العمل في مناجم الفحم (والحقيقة أن النساء ما زلن يعملن في مهنٍ تخدش حيائهن)، وكان الأطفال يباعون إلى المصانع في سن السادسة.
ولكن، في الوقت نفسهِ، ومما يتوافق مع ازدواجية التفكير، تُصرح الحكومات الدكتاتورية علناً (وضمناً من خلال أعمالها)، أنّ عامة الشعب طبقة وضيعة، بالفطرة، وأنه يجب إبقاؤهم مذعنين، وتركهم يعيشون نمطاً من الحياة يتناسب مع طبائعهم، ويجب أن يولدوا ويكبروا فيك الأزقة الفقيرة، ثم يذهبون إلى العمل في سن الثانية عشرة، ويمرون مروراً عابراً في مرحلةٍ تمثل ذروة الجمال والرغبة الجنسية، وبعدئذٍ يتزوجون في العشرين، ويبلغون العمر في الثلاثين، ويموت معظمهم في الستين، فقلما تهتمُ الحكومات الدكتاتورية بالطبقة العامة.
وفي أحد الاقتباسات الواردة في رواية (1984)، يقول جورج أورويل: “لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا إلا بعد أن يثوروا”، وذلك تعليقاً على حالة الجهل التي تعاني منها طبقة عامة الشعب، بسبب التضليل الكبير من قبل الدكتاتوريين وأذنابهم.
إن التضليل الذي تمارسه الحكومات الدكتاتورية بحق عامة الشعب، لن يتم بطريقةٍ أو بأخرى بوسائل عشوائية غير مدروسة، فنظام الحكم مقسم إلى عدةِ أقسامٍ، لكلِّ قسمٍ مهام منوطة به، وفق نسق منظّم ومتفق عليه، وهو يشمل الإستراتيجيات العامة، والمسلمات المتفق عليها، والمصطلحات الدقيقة التي يفضل استخدامها، إلى جانب الاستناد إلى الحقائق التاريخية المزيفة، والقوانين الوضعية التي وُضعت لتخدم المصالح العليا للسلطة الحاكمة.
يقول إفلاطون: “أغلب الناس عند السلطة يصيرون أشراراً”، فالدكتاتوريون يسعون إلى بناء دكتاتورياتهم، على الرغم من أن الخير أوضح وأسهل وأصلح، وربما دوافع ذلك أنهم مصابون بأمراضٍ نفسية وعقلية مُذْ الصغر.
العربي الجديد