عندما التقى نائب الرئيس الأمريكي،جو بايدن، رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم في أنقرة أخيرا كانت البنود الرئيسية التي نوقشت محاولة الانقلاب العسكري الأخيرة في تركيا، وتسليم فتح الله غولن، وسوريا. وفي مؤتمر صحفي عقد بعد اللقاء ألقى بايدن الضوء على نقطتين أخريين: تعهدت الولايات المتحدة وتركيا بتشجيع القادة القبارصة على إنهاء المفاوضات لتشكيل اتحاد كونفيدرالي، وأن تركيا والولايات المتحدة ستبذلان جهودا مشتركة لدعم أمن الطاقة الإقليمي.
وعلى الرغم من أن قلة من المحللين ركزت على هذه البنود، فمن الجدير بالذكر أن أمن الطاقة الإقليمي هو عامل مرتبط بقضية غولن والوضع في سوريا والقضية القبرصية.
أنهى بايدن مؤتمره الصحفي بالقول: “تحدثنا أيضا حول كيفية استمرار الولايات المتحدة وتركيا في دعم القادة القبارصة وهم يعملون على التوصل إلى اتفاق بحلول نهاية هذا العام، ونأمل أن يعاد توحيد الجزيرة في منطقتين وطائفتين. وناقشنا الجهد المشترك لدعم أمن الطاقة في المنطقة”.
لم تكن الإشارة إلى قبرص وقضايا أمن الطاقة أمرا متوقعا. قبل وصوله إلى تركيا، كتب بايدن في افتتاحية صحيفة ميلييت التركية اليومية عن أهداف زيارته، وأشار إلى دعم الولايات المتحدة للحكومة التركية المنتخبة ديمقراطيا، والإجراءات القانونية التي تقوم بها الولايات المتحدة في قضية غولن، والوضع في سوريا. لم يشر بايدن في مقاله لا إلى الوضع في في قبرص ولا إلى قضايا الطاقة الإقليمية، لكنها مع ذلك صارت موضعًا لللنقاش خلال لقاءاته.
ليست هذه المرة الأولى التي يثير فيها بايدن مسألة القضية القبرصية وأمن الطاقة الإقليمي مع الحكومة التركية. عندما زار نائب الرئيس الأمريكي تركيا في وقت سابق من هذا العام، طرحت قضية قبرص وأمن الطاقة الإقليمي على جدول الزيارة في ذلك الوقت أيضا. وخلال لقائه رئيس الوزراء حينها، أحمد داود أوغلو، والرئيس رجب طيب أردوغان أشار بايدن إلى أنه تشاور مع القادة الإسرائيليين والقبارصة اليونانيين على قضايا تقاسم السلطة بين القبارصة الأتراك واليونانيين، وهو موضوع أدرجته الولايات المتحدة ضمن أمن الطاقة. الموضوعان مرتبطان في الواقع، حيث إن حل القضية القبرصية لن يحل فقط مشكلة تقاسم موارد الغاز الطبيعي في الجزيرة، بل سيجهز أيضا منطقة عبور آمنة للغاز الإسرائيلي والمصري، ما من شأنه أن يقلل التوترات الناجمة عن النزاعات حول المياه الإقليمية في البحر المتوسط.
ربط بايدن أيضا القضية القبرصية مباشرة بأمن الطاقة الأوروبي بوصفه وسيلة للحد من قدرة روسيا على استخدام إمدادات الطاقة سلاحا للسياسة الخارجية، وذلك خلال كلمته أمام قمة الأطلسي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014. في هذا الخطاب ذكر بايدن كيف أنه أراد أن يشجع القبارصة على تطوير موارد الطاقة لديهم. وقال: “بالنسبة للمنطقة فإن ذلك يبشر بتعزيز الاستقرار والازدهار من خلال الجمع بين إسرائيل وتركيا ومصر واليونان وقبرص ونأمل في انضمام لبنان في يوم من الأيام”، مضيفا أن هذا المحور لديه القدرة على جلب إمدادات جديدة إلى أوروبا لزيادة أمنها الطاقوي من خلال تنويع مصادر الطاقة”.
وتكشف نظرة سريعة على الخارطة أنه يمكن بسهولة ملءُ القطعة المفقودة في جسر الطاقة بالبحر المتوسط، وذلك في إشارة من بايدن إلى الشاطئ السوري غربي نهر الفرات. وتصر أنقرة منذ فترة طويلة على أن وحدات حماية الشعب الكردي لا ينبغي أن يكون لها وجود غرب الفرات، وهذا ما أكدته أخيرا العملية التركية الأخيرة درع الفرات التي تهدف إلى جانب تحرير جرابلس من تنظيم داعش، إلى دفع وحدات حماية الشعب إلى شرقي الفرات، وهي فكرة يبدو أنها حظيت بتأييد بايدن خلال زيارته أنقرة. لا يملك الشاطئ السوري على البحر المتوسط دورا استراتيجيا فقط للتعاون في مجال الطاقة بالبحر المتوسط، بل يمثل أيضا دعما طبيعيا لموارد الطاقة الإيرانية والعراقية للوصول إلى الطرق البحرية المرتبطة بأوروبا، على النحو المتوخى من خط أنابيب الغاز بين إيران والعراق وسوريا.
ومن أجل تلبية طموحاتها في أن تصير مركزا للطاقة، يجب على تركيا أن تشارك في منصة التفاوض مع الممثل السوري الذي يسيطر على مناطق غربي الفرات. أظهرت تصريحات بايدن أن تركيا والولايات المتحدة لن تقبلا أبدا بأن يكون هذا الممثل وحدات حماية الشعب الكردية.
ويتناول أمن الطاقة الذي يدافع عنه بايدن لفت الانتباه إلى حركة غولن. في كانون الأول/ ديسمبر 2013 أطلقت شرطة إسطنبول عملية لمكافحة الفساد اعتقل فيها 80 شخصا من بينهم وزراء في الحكومة. وصفت الحكومة التحقيق بأنه “هجوم من جماعة غير قانونية داخل الدولة” أي حركة غولن. ومع إلقاء القبض على أسماء مثل “سليمان أصلان” مدير هالك بانك المملوك للدولة، ورجل الأعمال الإيراني رضا زراب، طرحت أسئلة حول مدى قانونية تجارة الغاز مع إيران عبر هالك بنك. ونتيجة لقيود العقوبات الأمريكية طورت تركيا صيغة لتجارة الذهب مع إيران بأن تسدد فواتير النفط والغاز لإيران بالليرة التركية عبر “هالك بانك”. ومن ثم كانت إيران تستخدم هذه المبالغ في شراء الذهب من تركيا حيث يحمل المرشدون السياحيون الذهب في حقائبهم إلى دبي، حيث يُباع هناك بالعملة الصعبة أو يُشحن إلى إيران.
في كانون الثاني/ يناير 2013 صار هالك بانك قناة الدفع الوحيدة المخولة لشراء النفط والغاز لتركيا. في آذار/ مارس 2013 ا كان أردوغان يمضي قدما في سبيل تصدير نفط إقليم كردستان العراق عبر ميناء جيهان، وكانت الخطة أن تحول الودائع المالية عبر هالك بانك، لكن عندما كشفت عملية 17 ديسمبر تهريب الأموال ونقاط الضعف في النظام ألغت حكومة كرستان الصفقة ما أضاع على الحكومة التركية عائدات الطاقة الناجمة عن بيعه.
كانت تجارة الطاقة عبر هالك بانك قانونية وشفاقة بالكاد بسبب القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على تجارة الطاقة في المنطقة. وهذا النقص في الشفافية خلق فرصا للمصالح الشخصية جعلت الدولة عرضة للخطر. وفي هذا السياق فإن الجهود التركية الأمريكية المشتركة في أمن الطاقة وتجارة الطاقة الإقليمية يمكن أن تتجنب هذه العمليات المزدوجة.
وعلى الرغم من أن بايدن أشار خلال زيارته إلى القضايا المصيرية، فإن بعض وسائل الإعلام التركية تناولت اجتماعات أنقرة بعناوين مثل “بايدن أضاع الرحلة” و”تركيا أهدرت وقتها”، وعندما تكون تلك الوسائل أكثر سخاء فإنها تكتب “بايدن حقق إنجازا دبلوماسيا ثانويا”. واقتصرت تعليقات معظم المحللين حول تصريجات بايدن على سيادة القانون والفصل بين السلطات. أما وسائل الإعلام الأمريكية فلخصت الاجتماع بقولها أردوغان يطلب تسليم غولن، في حين أن الصحافة الأوروبية لم ترى أبعد من عملية جرابلس.
اقتصر الإدراك الانتقائي لوسائل الإعلام لزيارة بايدن على تحليل قصير المدى. وعلى الرغم من غياب ملاحظة وسائل الإعلام، فمن الواضح أن صناع القرار الأتراك والأمريكيين كان لديهم على ما يبدو أهدافٌ أكثر على المدى البعيد، مع نهج استراتيجي أعمق ياخذ في الحسبان قرارهما بمناقشة موضوع التعاون في مجال الطاقة الذي لا يعد مصيريا لصراعات الشرق الأوسط وتوترات البحر المتوسط فحسب، بل للأمن الذي يمكن أن يبني علاقة جديدة قوية، ويصنع تحولات في الأدوار السياسية.
ترك برس