هل يمكن ان تستخدم مواد كيمائية لصناعة أدوية مثل الفولتارين أن تنتهي مواد متفجرة في براميل الموت التي يستخدمها النظام السوري؟ هذا التحقيق الاستقصائي يشرح كيف.
بعد تحقيق استمر عاماً، أصبح بإمكان وحدة التحقيق التابعة لمجموعة “تاميديا” الإعلامية السويسرية، تأكيد أن معظم المواد الكيميائية التي تدخل في صناعة دواء “فولتارين” لم تصل قط إلى وجهتها. ويخشى عميد سوري سابق من أنها استخدمت لتصنيع أسلحة كيميائية.
بعد رحلة على متن قارب استغرقت أسابيع، وامتدت من مدينة بازل على نهر الراين إلى مدينة اللاذقية الواقعة على ساحل البحر المتوسط، وصلت أخيراً خمسة أطنان من الإيزوبروبانول و280 كيلوغراماً من مادة ثنائي إيثيل أمين إلى مخازن “شركة المتوسط للصناعات الدوائية” في 14 كانون الثاني/ يناير 2015.
عن شركة “رائدة”
تُعد شركة المتوسط للصناعات الدوائية- التي تبعد قرابة 20 كيلومتراً من العاصمة دمشق، والتي كان يعمل لديها حوالى 150 موظفاً في ذلك الوقت- واحدة من الشركات الرائدة في القطاع الدوائي السوري. لدى الشركة تراخيص تسمح لها بتصنيع أدوية كثيرة، لا سيما عقار فولتارين المضاد للالتهاب، المملوك لِعملاقة الأدوية السويسرية “نوفارتس”. وبينما يدخل الإيزوبروبانول في صناعة العقاقير الطبية كافة، فمن المعروف أيضاً أنه مادة كيميائية مزدوجة الاستخدام، أيّ أن لها استخدامات سلمية مشروعة لكنها قد تستخدم أيضاً في صناعة الأسلحة الكيميائية.
يُعد الإيزوبروبانول بالفعل عنصراً أساسياً في تصنيع السارين: غاز الأعصاب سيئ السمعة. وقد حظر الاتحاد الأوروبي بيع الإيزوبروبانول إلى سوريا- من دون الحصول على تصريح خاص- منذ اندلاع الحرب في 2011.
لكن ذلك لا ينطبق على سويسرا. فدائماً ما تقصدها الدول التي تحاول التزود بالأسلحة الكيميائية، مثل إيران والعراق، بسبب موقفها الملتبس بشأن العقوبات الدولية، مع ذلك رفضت البلاد 12 عملية تصدير إلى سوريا في الفترة ما بين عامي 1992 و2011.
إلا أن عبد الرحمن العطار، الرئيس السابق لشركة المتوسط للصناعات الدوائية، كان يعرف كيف يُحسّن صورته جيداً. فعلى رغم قربه من النظام، حظي العطار بصدقية دولية بحكم شغله منصب رئيس “منظمة الهلال الأحمر العربي السوري”. وبفضل هذا المنصب لم يرد اسمه في أيٍّ من قوائم العقوبات الدولية. كان هذا أحد العوامل التي ساهمت في طمأنة أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية.
أخبرنا مسؤولون في الأمانة أنه ليس لديهم وقت للتدقيق في كل طلبٍ على حدة، بسبب انشغالهم الشديد، إذ يستقبلون عشرات الآلاف من الطلبات سنوياً، يتولى أربعة موظفين حكوميين فقط مسؤولية مراجعتها. وعليه فقد وافقت الأمانة في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2014 على تصدير خمسة أطنان من الإيزوبروبانول و280 كيلوغراماً من مادة ثنائي إيثيل أمين إلى سوريا، بناءً على طلبٍ من شركة “برينتاغ شفايتزرهال”، الكائنة في مدينة بازل السويسرية.
ما لم يعرفونه حينها هو أن 80 في المئة من الإيزوبروبانول لن تصل أبداً إلى وجهتها. فقد انكشفت الفضيحة بعد أربع سنوات كاملة، عندما نشرت محطة “آر تي إس” التلفزيونية السويسرية تقريراً في حزيران/ يونيو 2018.
بفضل طلبات عدة ترتكز على قانون الشفافية السويسري، تمكنت وحدة التحقيق التابعة لمجموعة “تاميديا” من إعادة صوغ جزء من هذه القصة وتتبع سياقها الزمني المعقد.
تمكنا بعد بحثٍ من الحصول على بيان لعملية تدقيق أُجريت بأمرٍ من شركة مستحضرات صيدلانية منافسة لشركة “نوفارتس” في أيلول/ سبتمبر 2018. يشير التقرير أيضاً -المكون من 26 صفحة تدقق في سجلات الشركة- إلى تفاصيل الصفقة التجارية سالفة الذكر.
يشرح التقرير كيف أنه دقق بعناية في الوثائق المتعلقة باستخدام شركة المتوسط الدوائية الإيزوبروبانول في تصنيع الفولتارين. ويوضح كيفية وصول 1.12 طن من الإيزوبروبانول إلى سوريا في 14 كانون الثاني 2015، من دون استخدامها في تصنيع المرهم المضاد للالتهابات (يشكل الإيزوبروبانول 20 في المئة من مكونات أنبوبة واحدة من مرهم فولتارين)، مثلما أشارت أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية، وإنما في تصنيع المادة التي تغلف أقراصاً دوائية صفراً وسوداً ووردية.
علماً أن القرص الواحد لا يحتاج سوى غرامات قليلة فقط من الإيزوبروبانول. تخبرنا الوثيقة ذاتها أن تصنيع هذا الدواء بدأ في آذار/ مارس 2015 وانتهى في أيلول من العام ذاته.
تؤكد تلك المعلومات البيانات الواردة في المستندات التي قدمتها شركة المتوسط لأمانة الدولة السويسرية لتبرير استخدام تلك المركبات الكيميائية، وتتناقض معها أيضاً في الوقت ذاته. فتحت عنوان “سجلات الدفعات”، تتحدث الوثائق عن فترتين متعاقبتين استخدمت فيهما المواد.
تتزامن فترة الاستخدام الأولى مع الفترة المُشار إليها في البيانات المذكورة في تقرير الشركة المنافسة، التي تشير إلى استخدام 1.12 طن من الإيزوبروبانول في الفترة بين شهري آذار وأيلول من عام 2015. أما الثانية، التي يفترض أن توضح مصير الأربعة أطنان المتبقية، فتشير إلى استخدام المواد الكيميائية على مدار أكثر من عامين، ما بين أيلول 2015 وكانون الأول/ ديسمبر 2017.
لكن ذلك يتجاوز فترة ضمان المنتج التي تبلغ سنة واحدة، مثلما أكدت لنا شركة “ساسول” المنتجة له. يخضع إنتاج العقاقير المُرخصة لرقابة مشددة ويمنع منعاً باتاً استخدام المواد عندما تتجاوز فترة الضمان الخاصة بها، نظراً إلى المخاطر الصحية المحتملة على المستهلكين.
واصلنا البحث مدفوعين بحماستنا إلى أن اكتشفنا أنه لم تصل سوى 1.12 فقط من الإيزوبروبانول إلى وجهتها النهائية، وأنه لا توجد سجلات من أيّ شكل لأيّ شحنات أخرى. بل واكتشفنا أن أرقام التعريف الخاصة بالدفعة الثانية كانت خاطئة.
نقلا عن وكالة درج