لم يشأ فيروس كورونا دخول القارة اللاتينية إلا من بابها العريض، فمع مرور أول شهرين على انتشار الوباء في العالم، ظلت هذه القارة تنفرد بعدم تسجيل أي إصابة بين سكانها.
ومر موسم الكرنفالات في الثلث الأخير من شباط/ فبراير الماضي ولم تلغ أي دولة في أميركا اللاتينية احتفالاتها التي شارك بها عشرات الملايين.
إلى أن ظهرت أول إصابة في ساوباولو في 26 من فبراير/شباط لمواطن برازيلي عاد إلى بلاده حاملا الفيروس من أوروبا، شارك في احتفالات الكرنفال مع عدد كبير من أفراد عائلته، ثم ظهرت عليه الأعراض.
منذ تلك اللحظة اختلف المشهد في البرازيل والقارة، وسريعا جدا انتشر الفيروس في كافة ولايات البلاد لتصبح البرازيل مع مطلع شهر مايو/أيار الجاري -أي خلال شهرين فقط- واحدة من أكثر الدول إصابة بالفيروس وتسجيلا للوفيات في العالم وتسبق الصين مصدر الوباء، بعد تسجيل حوالي سبعة آلاف وفاة، و100 ألف إصابة مؤكدة حتى اللحظة.
وتتصدر دول القارة التي سجلت هي الأخرى إصابات ووفيات تتراوح أعدادها بين المئات والآلاف.
لكن السؤال الأهم كيف حدث ذلك بهذه السرعة؟
سوء إدارة وتحضير
كانت قضية الكرنفالات مسرح جدل خلال شهر فبراير/شباط، فبينما كان العالم بأسره يفرض العزل الاجتماعي والحجر الصحي أصرت السلطات البرازيلية على الإبقاء على الكرنفالات وعدم منعها رغم الدعوات في الداخل لإلغائها.
واستقبلت البرازيل وحدها أكثر من ثلاثة ملايين سائح في هذه الفترة، وكانت السلطات على اختلافها تقول إن الوضع تحت السيطرة وإن استعداداتها كافية.
وبالتزامن مع وصول الفيروس إلى البرازيل، كانت هناك دعوات لمظاهرات سياسية قسم منها مؤيد للرئيس ومطالب بتعطيل مجلس النواب والمحكمة الدستورية كان قد أيدها الرئيس نفسه، وقسم آخر معارض له.
لكن اكتشاف الإصابة دفع وزارة الصحة للنصح بعدم التجمع في هذه الظروف، لذا ألغيت المظاهرات المعارضة، ونصح الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو أنصاره بتأجيل المظاهرات، إلا أنهم أصروا على النزول إلى الشوارع والتجمهر في أكثر من مدينة.
ورغم توجيهات منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة البرازيلية، نزل الرئيس بولسونارو من قصره ليشارك المتظاهرين ويحييهم، وبدأ مصافحتهم والتقاط الصور معهم دون أي إجراءات وقائية.
وسافر بولسونارو إلى جنوب الولايات المتحدة في زيارة ضمت عددا كبيرا من الوزراء والمسؤولين مطلع مارس/آذار الماضي، التقى خلالها نظيره الأميركي دونالد ترامب، تصافحا وأقاما عشاء معا.
بعد عودة الوفد اكتشف وزير الاتصالات والمتحدث باسم الحكومة إصابته بالفيروس، وبدأ الفيروس يصيب الطبقة الحاكمة، وأجرى الوفد كله فحوصات للفيروس ومن بينهم الرئيس، ليتم اكتشاف 24 إصابة على الأقل بين أفراده.
غير أن الرئيس أعلن أن نتيجته سالبة دون إظهار نتيجة فحصه الرسمية أمام الإعلام، وهو أمر ما زال مثار جدل حتى اليوم.
استخفاف بالمرض وخلافات حادة
رغم تواصل الانتشار السريع، وصف الرئيس البرازيلي الفيروس بـ “الزكام البسيط”، مع بدء حكام الولايات إجراءات طارئة لفرض العزل الاجتماعي والحجر الصحي على ولاياتهم لكبح الانتشار، الذي لاقى تجاوبا جيدا من المواطنين في البداية.
هاجم الرئيس هذه الإجراءات بشدة ووصفها “بالجريمة بحق الاقتصاد”، ومن هنا بدأت سلسلة من الخلافات الحادة حول هذه الإجراءات.
يقول أخصائي علم الأمراض والأوبئة الطبيب البرازيلي ذو الأصل العربي الدكتور بلال البكري في حديث خاص مع الجزيرة نت “استخفاف الرئيس بولسونارو بالفيروس واستهزائه به في غير موضع، ومخالفته لإجراءات الوقاية ومهاجمة الحكام على تنفيذها أثر بشكل بالغ في انتشار الفيروس”.
وأضاف أن استخفاف مؤيدي الرئيس بالفيروس والإجراءات قلل من نسب الالتزام، خصوصا في ظل تأييد الكنائس الإنجيلية لهذا الطرح وتأثيرها بالمجتمع أيضا.
ويتابع البكري “زاد من حدة الأزمة إقالة الرئيس لوزير الصحة البرازيلي الذي كان قد حذر من الوصول إلى مرحلة الخطر في حال عدم تطبيق الإجراءات الوقائية، في ذروة أزمة انتشار الفيروس، رغم شهادة المتخصصين بالأداء المتميز للوزير، الأمر الذي شكّل صدمة للبرازيليين وأثر أيضا في إضعاف إجراءات مكافحة الفيروس وزيادة انتشاره”.
مرحلة خطيرة
في هذا الصدد، يصف البكري للجزيرة نت وضع انتشار الفيروس في البرازيل بأنه “وصل إلى مرحلة خطيرة، في ظل انتشار سريع”.
ويؤكد أنه لولا هذه الخلافات السياسية خاصة مع حكام الولايات ووزير الصحة التي صنعها الرئيس في ذروة الأزمة الصحية وعدم اكتراثه بصحة المواطنين واستهزائه بالمرض، بل ونزوله بنفسه إلى الشوارع دون اتخاذ إجراءات السلامة، لكان الوضع أفضل على صعيد انتشار الوباء وسرعته.
وفي الحديث عن استمرار تردي الأوضاع في ظل زيادة الخلافات السياسية، يضيف البكري أنه مما يزيد من تعقيد الحالة وجود الأزمة السياسية الجديدة التي بدأها الرئيس مع إقالة رئيس الشرطة الفدرالية مما أدى إلى استقالة أحد أهم وجوه السياسة البرازيلية وزير العدل والأمن العام، وهو ما قد يشتت الانتباه أكثر عن التركيز على الأزمة الصحية ومعالجتها.
وحتى هذه اللحظة ما زال الرئيس البرازيلي يُصر على الدعوة لعودة الحياة إلى طبيعتها، وتطبيق نظام العزل العمودي بدلا عن الأفقي، وهو عزل كبار السن والمرضى ومن هم بدائرة الخطر فقط وعودة الحياة والعمل لباقي السكان للحفاظ على الاقتصاد والوظائف مدعيا أن “70% سيصابون بالفيروس ولا مهرب من ذلك فلماذا الانتظار؟”.
وقد أوضحت الدراسات تراجع نسبة الالتزام بالحجر من قبل المواطنين من 70% مع بدء الأزمة إلى أقل من 50% في ساوباولو وحدها بعد تصريحات الرئيس.
غير أن استمرار منحنى الإصابات والوفيات بالتصاعد بشدة في البرازيل ما زال يمنع حكام الولايات من تخفيف إجراءات العزل والحجر، خصوصا في ظل انهيار النظام الصحي في عدد من المدن والولايات، خاصة مع امتلاء الأسرة في غرف الإنعاش في ولايات كريو دي جانيرو وسيارا والأمازون، والارتفاع الشديد في عدد الإصابات والوفيات اليومي، مما أدى لفتح مقابر جماعية في عاصمة الأمازون، وآلاف القبور في ساوباولو وغيرها.كل ذلك يجري في ظل إعلان وزارة الصحة الصريح بأن الأرقام المعلنة للإصابات والوفيات لا تعكس الواقع وتقل عنه بكثير نظرا لعدم توفر الفحوصات للعامة بعد.
نقلا عن الجزيرة