إذا صحّ أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ينفرد بعجائب الأفعال وغرائب الأقوال في معالجة شؤون جائحة كورونا، فالأصحّ التذكير بأنه ليس الوحيد في الميدان؛ ما وراء المحيط على الأقلّ، وفي البلد الأضخم على مستوى أمريكا اللاتينية: البرازيل. ولم تكن مصادفة أنه التقى مع ترامب خلال استراحة الأخير في مارالارغو، وتبادلا السخرية من فيروس كورونا بوصفه إما «فانتازيا» أو «أكذوبة» أو في الحدود القصوى مجرّد «لفحة برد». كذلك لن يكون اتفاقهما، لاحقاً، حول تفاصيل أخرى كثيرة تخصّ الجائحة (السخرية من العلماء والأطباء والخبراء، التحمس الشديد لعقار هيدروكسيكلوروكين، مقاومة الحجر إلى درجة الظهور في الشارع ومصافحة الناس ثمّ عزل وزير الصحة لأنه طالب المواطنين بأن يلزموا البيوت…)؛ وكأنّ النزوع الشعبوي الذي يشدّ بولسونارو إلى ترامب تجسد على نحو غير مسبوق في هذا التسابق على تسخيف الجائحة، وتجريدها من الأخطار على الاقتصاد والسوق ومعدّلات التأييد الشعبي بصفة خاصة.
كذلك ليست مصادفة أنّ جائحة كورونا كانت الخلفية، الأحدث عهداً في الواقع، لتصدّع الفريق الصلد الذي كان وراء صعود بولسونارو وانتخابه، أواخر تشرين الأول 2018، بأكثر من 55٪ من أصوات الناخبين، أمام منافسه فرناندو حداد. وفي رأس هؤلاء كان القاضي سيرجيو مورو، الذي ترأس تحقيقاً ضدّ الفساد عُرف باسم «غسيل السيارات» وأسفر عن اعتقال وسجن الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيناسيو لولا، فكان في طليعة قرارات بولسونارو الرئاسية تعيين مورو وزيراً للعدل. وهذا المساند الأكبر، سابقاً، قدّم استقالته مؤخراً ورفع إصبع الاتهام بالفساد في وجه بولسونارو؛ متفقاً في ذلك مع قرار المحكمة العليا ترخيص التحقيق في تهم موجهة إلى الرئيس البرازيلي، تفيد بأنه سعى إلى استغلال الشرطة الفدرالية لأغراض سياسية شخصية. وسرعان ما التحق بوزير العدل، في مغادرة مركب الرئاسة الآخذة في الترنح، اثنان من أبرز أعضاء الكونغرس كانا من أشدّ المدافعين عن بولسونارو: ألكسندر فروتا، نجم الأفلام الإباحية المتقاعد الذي يطالب اليوم بمحاكمة الرئيس وعزله؛ وجاناينا باسكوال، قائدة الحملة للإطاحة بالرئيسة السابقة ديلما روسوف.
الحجر الصحي منع بولسونارو من استعراض عضلات شعبوي كان مقدراً له أن يكون الأضخم ضدّ خصومه منذ أن تولى الرئاسة، إذْ كان يوم 15 آذار (مارس) هو الموعد الذي ضربه أنصاره لاجتياح الشوارع والمطالبة بإسقاط الكونغرس والمحكمة العليا لأنهما يتدخلان في سياساته النيو ــ ليبرالية والأوتوقراطية. وكان إدواردو (ابن الرئيس ومنظّر العائلة الإيديولوجي كما يجمع الكثير من المراقبين) قد مهّد للموعد بتصريح استفزازي تماماً: «لو أسقط أحدهم قنبلة هيدروجينية على الكونغرس، هل تعتقدون أنّ أحداً سيذرف دمعة؟». وكان، في واقع الأمر، يعيد صياعة تصريح آخر شهير صدر عنه خلال حملة والده الانتخابية، في سنة 2018: «لا يحتاج الأمر إلا إلى جندي واحد وآخر برتبة عريف لإغلاق المحكمة العليا»! كلّ هذا على خلفية مؤشر بالغ الخطورة، هو أنّ أنصار بولسونارو بدأوا في الآونة الأخيرة يرفعون خلال التظاهرات لافتات تطالب بعودة العسكر؛ أي تكرار النظام الانقلابي الذي حكم البرازيل خلال أعوام 1964 وحتى 1985.
وعلى خلفية جائحة كورونا تحديداً، تتجه الأنظمة الشعبوية إلى تخوين الأخصائيين حين ينحو هؤلاء منحى تكوين أغلبية صلبة داخل الرأي العام حول حقائق علمية راسخة تخصّ الفيروس، مثلاً
ليس غريباً، والحال هذه، أن يمجّد بولسونارو قادة انقلاب 1964 وأن يعلّق صورهم على جدران مكتبه حين كان عضواً في الكونغرس، وأن يبدي إعجابه بشخصية الجنرال التشيلي أوغستو بينوشيه الذي قاد الانقلاب ضد الرئيس الشرعي المنتخب سلفادور ألليندي في أيلول (سبتمبر) 1973. وبين الوقائع الفظيعة التي يسجّلها المؤرخ البرازيلي موريلو كليتو في سيرة بولسونارو أنه سُئل عن جريمة الانقلابيين في حشر الصحافية الحامل ميريام ليتاو مع أفعى في حفرة، فعلّق قائلاً: أنا أتعاطف مع الأفعى! وحين أقامت البرازيل تمثالاً على شرف روبنز باييفا، الذي اختطفه العسكر أيضاً ولم يُعثر على جسده، تقصد بولسوناروا الذهاب إلى التمثال بهدف واحد: أن يبصق عليه! وفي الأشهر الأولى التي أعقبت انتخابه رئيساً للبلاد، أصدر مرسوماً يقضي بإلغاء المنع الذي فُرض سابقاً على احتفال الجيش بذكرى الانقلاب، ولكنه تحت ضغط الجنرالات أنفسهم تراجع قليلاً وصرّح بأنه لم يأمر بالاحتفال وإنما بالاستذكار!
وفي بورتريه يرسم الخطوط الأعرض لشخصية بولسونارو السياسية والفكرية، نشرته دورية «نيويورك ريفيو أوف بوكس» أواخر آذار (مارس) الماضي، يرى فنسنت بيفنز أنّ «البولسوناريسمو« حركة عنيفة بجلاء تامّ، تحتقر الديمقراطية ولكنها تستخدم مؤسساتها؛ وإن كانت لا تمانع في إلقائها جانباً في أيّ وقت، إذا عرقلت الاهداف الحقيقية للحركة. وأمّا أبرز مكوّناتها العقائدية، فهي «تأكيد مبدأ العائلة التقليدية، والحفاظ على النظام الاجتماعي القائم حالياً في البرازيل وخاصة الحملة الصليبية الأزلية لاقتلاع اليسار». وقبل أن يفلح التحقيق ضد الفساد في تقويض المؤسسة السياسية والسماح له بالقفز إلى مركز الصدارة، كانت خلاصة حياة بولسونارو السياسية، على امتداد 27 سنة في عضوية الكونغرس، أن «يمتدح الدكتاتورية العسكرية ويساند أجهزة الشرطة الأكثر عنفاً في البلاد».
وما لا يصحّ نسيانه، هنا، هو أنّ بولسونارو، بصرف النظر عن شخصية منافسه في الرئاسيات الأخيرة ونقاط قوّته وضعفه، انتُخب بنسبة 55٪؛ الأمر الذي يعني أنه حصل على أصوات تلك الشرائح التي اصطفت ذات يوم خلف الرئيس الشعبي لولا، وبالتالي فإنّ بعض الشعارات التي رفعتها البولسوناريسمو لم تكن تستجيب للمطالب النيو ــ ليبرالية وتيارات اقتصاد السوق والعداء لليسار ومكافحة الفساد، فقط؛ بل كانت أيضاً تدغدغ أحلام بعض الفقراء، وتطلعاتهم إلى غد أفضل. هذه ليست مفارقة جديدة بالطبع، بل لعلها سمة متلازمة مع صعود التيارات الشعبوية القديم منها والحديث والمعاصر، ومن هنا حال التناغم بين بولسونارو وترامب، مع حفظ الفوارق الأخرى غنيّ عن القول.
المشهد اليوم، على الصعيد السياسي، يضع شعبوية بولسونارو أمام اثنتين من مؤسسات الديمقراطية البرازيلية، أي الكونغرس والمحكمة العليا؛ وتكفلت جائحة كورونا بتعميق العناصر أكثر حين أضافت خلافات الرئيس مع قادة سابقين كانوا مخلصين له كلّ الإخلاص، مثل وزير العدل ووزير الصحة. غير أنّ المشهد الاجتماعي لا يشير إلى ضيق الطبقة الوسطى بسياسات بولسونارو الاقتصادية والمعاشية، حيث لا يلوح أنّ الحياة تبدلت كثيراً بالنسبة إلى شرائحها؛ رغم السياسات القصوى التي اعتمدها وزير مالية منحاز تماماً لبيوتات المال والأعمال. كذلك فإنّ بولسونارو، على نقيض أسلافه من الرؤساء الذين حكموا بعد طيّ صفحة الحقبة العسكرية، مارس السلطة وكأنّ البرازيل لا مكان فيها للكونغرس؛ أو كأنها سلطة تنفيذية وحيدة لا تقابلها، ولا تعترض عليها أو تحاسبها، سلطة تشريعية.
وهذه الحال تعدّ واحدة من كبريات نقائض الإيديولوجيا الشعبوية، لجهة إرساء علاقة تعسفية بين مفهومَيْ «الرأسمالية» و«الديمقراطية»: إذا نُظر إلى الرأسمالية كعقيدة لاقتصاد تنافسي ينتج قوى السوق، فإن الديمقراطية الليبرالية هي بالضرورة عقيدة السياسة التنافسية التي تخلق التعددية السياسية؛ والميزان الحسابي النهائي هو التالي، ببساطة: ممارسة رأسمالية أكثر، وديمقراطية أقلّ. وضمن هذه المعادلة ذاتها، وعلى خلفية جائحة كورونا تحديداً، تتجه الأنظمة الشعبوية إلى تخوين الأخصائيين حين ينحو هؤلاء منحى تكوين أغلبية صلبة داخل الرأي العام حول حقائق علمية راسخة تخصّ الفيروس، مثلاً. لهذا لا يتردد ترامب في التنكيل باللجنة العلمية ذاتها التي تدير شؤون مكافحة الجائحة في الولايات المتحدة؛ ويقتدي به بولسونارو في السخرية من الفيروس، ومن العلم والطبّ الذي… يلغي مليونية مناصرة له!
صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
نقلا عن: القدس العربي