أحد الاتهامات التي استخدمتها دول الحصار ذريعة لتبرير إجراءاتها ضد قطر، هي “العلاقة الوثيقة” المزعومة بين الدوحة وطهران.
الأزمة الخليجية الحالية ببساطة جرى خلقها من لاشيء، ولأنه ليس هناك مناسبة لبدء هذا النزاع في المقام الأول، عمدت دول الحصار للرجوع بالزمن إلى الوراء، ربما إلى 10 سنوات أو 15 أو حتى 20 سنة مضت، في مسعى منها لإيجاد أدلة تدعم الاتهامات لحكومة قطر.
وقبل 7 أشهر فقط، قام العاهل السعودي الملك سلمان بزيارة تاريخية إلى الدوحة، حيث شارك القطريين رقصة “العرضة” الشهيرة، في إشارة إلى قوة العلاقات بين البلدين. وعدم وجود أي مشكل بينهما.
يضاف إلى ذلك أن مسألة قطر لم تكن تثار في اجتماعات مجلس التعاون الخليجي، ولا حتى في جامعة الدول العربية، ولا على مستوى القنوات الثنائية، إذن كيف ظهرت فجأة تلك المزاعم والاتهامات التي دفعت دول الحصار لاتخاذ إجراءات قاسية ضد قطر، ولماذا ظهرت؟
في وقت من الأوقات كانت العلاقة بين الدوحة وطهران جيدة جدا، ووصلت تلك العلاقة ذروتها في الفترة الممتدة بين 2006 – 2008، لكن مضى على ذلك وقت طويل، ومن وجهة نظر الدوحة، كان لها ظروفها الخاصة وأسبابها آنذاك.
في ذلك الوقت، كان “المحور السني المعتدل” في العالم العربي يفتقد للقيادة والعزيمة، خاصة عندما يتعلق الأمر بدعم حق الفلسطينيين المشروع في مقاومة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، وهذه الحقيقة وظفتها إيران بقوة للحصول على التأييد الساحق من الجمهور العربي.
ولم يكن مستغربا وقتها أن نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة “زغبي” للخدمات البحثية (أمريكية)، وجامعة ماريلاند في 2008، أظهرت أن الزعماء الثلاثة الأكثر شعبية في العالم العربي آنذاك هم زعيم حزب الله حسن نصر الله، ورئيس النظام السوري بشار الأسد، والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد.
ومنذ العام 2009، بدأ الشرق الأوسط يشهد تغيرات جذرية، وأخذ نجم تركيا يسطع في المنطقة، وعند هذه النقطة بدأ الجمهور العربي يتحول من دعم طهران إلى دعم أنقرة، وكذلك فعلت قطر، إذ بدا لهم أن تركيا البديل الأفضل عن إيران وعن “محورها المقاوم” الطائفي.
ومنذ ذلك الوقت، لم تكن علاقة قطر بإيران أفضل حالا من علاقات عديد من دول مجلس التعاون الخليجي مع طهران، بل إن ثورات الربيع العربي وضعت إيران وقطر في خلاف شديد في المنطقة.
وبالنتيجة توجهت قطر أكثر نحو تركيا، وعمل البلدان على وضع أرضية مشتركة لتحسين العلاقات الاستراتيجية بينهما.
وعندما نتحدث عن مجلس التعاون الخليجي، فإننا بداية نلاحظ أن عُمان، على سبيل المثال، كانت ولا تزال لديها علاقات واسعة مع إيران.
ففي 2009 وفرت مسقط قناة اتصال بين إيران والولايات المتحدة، قبل أن تلعب دور الوسيط السري بينهما.
وفي 2013، لعبت عُمان أيضا دورا جوهريا في تسهيل واستضافة محادثات سرية بين طهران وواشنطن؛ كان من ثمرة تلك المحادثات توقيع الاتفاق النووي المعروف بـ “خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) بين البلدين، ومن ثم إزالة العقوبات المفروضة على إيران.
وعام 2016، عندما قررت الرياض سحب سفيرها من طهران على خلفية الاعتداءات التي تعرضت لها بعثاتها الدبلوماسية في طهران ومشهد، أظهرت الدوحة تأييدها لقرار الرياض، واستدعت سفيرها هناك، فيما لم تتخذ مسقط أية إجراءات غير الإدانة اللفظية.
وبالنظر للعلاقات الدبلوماسية مع إيران، نرى أن الكويت تتمتع بعلاقات أكثر استقرارا مع طهران مقارنة بالدوحة، فقد شهد العام 2014 زيارة تاريخية أجراها أمير الكويت إلى طهران، حيث التقى بالمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي.
وفي يناير / كانون الثاني الماضي، تواصلت الكويت مع طهران في محاولة منها لبدء حوار استراتيجي بين إيران ومجلس التعاون الخليجي ككل.
كما قام الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بعد إعادة انتخابه رئيسا بزيارة عمان والكويت، فبراير / شباط الماضي.
وفيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية مع إيران، تأتي الإمارات في مقدمة نظيراتها من دول المجلس، كما لعبت موانئ البلاد دورا متزايد الأهمية في تعزيز التجارة مع إيران (طهران) في السنوات الأخيرة.
وتعد الإمارات، أبرز الدول المؤيدة لعزل قطر، الشريك التجاري الأساسي لإيران، حيث بلغ حجم تجارة الأولى مع طهران نسبة 23.6 % من إجمالي تجارتها.
وبحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”، فإن حجم تجارة طهران مع دبي بلغ 90 % من حجم تجارة الوطن العربي مع إيران.
ففي عام 2011، بلغ حجم التجارة بين إيران والإمارات 23 مليار دولار قبل أن يشهد انخفاضا إلى 15 مليار دولار في عام 2013 بسبب العقوبات التي كانت مفروضة على إيران.
إلا أنه كان للإمارات آنذاك النصيب الأكبر من إجمالي حجم صادرات مجلس التعاون الخليجي إلى إيران، والذي بلغ 96.7 %.
أما بالنسبة إلى أعداد الإيرانيين الذين يعيشون في دولة الإمارات، وبشكل رئيسي في دبي، فتشير الإحصاءات إلى تواجد نحو نصف مليون إيراني في الإمارات، وبعضهم ممن لديه علاقات فعالة مع النظام الإيراني، وبالأخص مع الحرس الثوري.
وأسهمت الإمارات إلى حد كبير في الجهود المبذولة لمساعدة النظام الإيراني في تجنب العقوبات الدولية وتعزيز التجارة غير المشروعة للحرس الثوري.
وفي عام 2011، انتهكت العديد من الشركات التي تتخذ من دبي مقرا لها قانون مراقبة تصدير الأسلحة الصادر عام 1976، وقانون الصلاحيات الاقتصادية في حالات الطوارئ الدولية، وقواعد المعاملات والعقوبات الإيرانية، لأنها تورطت في شراء صفقات أسلحة غير مشروعة.
وفي هذا الصدد قال مارك دوبويتز، المدير التنفيذي في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية والمتخصص في الشؤون الإيرانية، عام 2012 “إن دبي لسنوات كانت مصدر إزعاج كبير للإدارة (الأمريكية) لأنها لم تكن راغبة بتنفيذ العقوبات (ضد إيران)؛ الوضع تغير الآن، لكن السؤال هل هي تغيرت؟”.
الشركات التي تتخذ من دبي مقرا لها تم استغلالها من قبل الحكومة الإيرانية، والحرس الثوري، لتجاوز أي صعوبات مالية ولتأمين الاحتياجات الحرجة للبرنامج النووي، وهذا هو السبب في أنها غالبا ما تظهر على القوائم السوداء للخزانة الأمريكية، ولا تزال حتى اللحظة.
واحدة من تلك الحالات، على سبيل المثال، عندما أعلنت الخزانة الأمريكية عام 2014 أن “حزب الله اللبناني استخدم شبكة “ستارز غروب هولدينغ” للإلكترونيات (يملكها شقيقان في الصين والإمارات) لشراء أجهزة إلكترونية متطورة وتقنيات أخرى من موردين في جميع أنحاء العالم”.
وأضافت أن “ذلك ساعد مباشرة، في تعزيز القدرات العسكرية للحركة، منها تطوير طائرات دون طيار استخدمت مؤخرا في سوريا، حيث يقدم الحزب اللبناني الدعم للقوات الموالية لنظام بشار الأسد، بجانب مراقبة إسرائيل”.
وتحتفظ شبكة “ستارز غروب” اللبنانية بشركات تابعة لها في دبي، وكانت الخزانة الأمريكية فرضت عقوبات عليها إلى جانب شركات تابعة لها في الإمارات بتهمة مساعدة “حزب الله” في شراء معدات عسكرية وأجهزة إلكترونية استخدمها الحزب في تطوير طائرات دون طيار.
وفي عام 2015، كشفت رويترز عن تقرير حصري يوضح كيف ساعدت الإمارات من خلال محلات الصرافة وشركات وهمية في دبي على تهريب مليار دولار نقدا إلى إيران لتفادي العقوبات الغربية.
عندما ننظر بعمق في مدى مساعدة دولة الإمارات للنظام الإيراني بالرغم من الخطاب المتشدد الذي نسمعه أحيانا من مسؤوليها، لن يكون من الصعب الحكم على أن المزاعم الحالية بأن قطر مقربة جدا من طهران هي مجرد هراء ودعاية سوداء.
أبلغني مصدر على اطلاع واسع بالاتصالات الحالية فيما يخص الأزمة الخليجية، نقلا عن مسؤول كبير في الخارجية الأمريكية أن الأخير “استمع لاتهامات (الدول الخليجية) لقطر في هذا الصدد، ورأوا بصراحة أنها (الاتهامات) قديمة جدا”.
وأضاف المصدر ذاته نقلا عن المسؤول “نحن لم نلاحظ أي تغيرات مفاجئة في طبيعة العلاقات بين قطر وإيران في السنوات الأخيرة، وحتى حينما يتعلق الأمر بالاتهامات الأخيرة (ضد قطر)، فإن (دول الحصار) لم تقدم أي أدلة لنا، وليس لدينا أي تأكيدات من جانبنا على ذلك”.
وعلاوة على ذلك، من المفارقات أن يتم حظر شركات الطيران القطرية من التحليق فوق السعودية والبحرين والإمارات، في حين لا تزال الأخيرة تسيّر رحلات مباشرة من وإلى إيران.
كما لا تزال كل من شركة ماهان الإيرانية للطيران، التي لها علاقات مع الحرس الثوري، والخطوط الجوية السورية التابعة لنظام الأسد لديهما رحلات مباشرة من إيران وسوريا إلى الإمارات.
يشار إلى أنه في 2013 فرضت الخزانة الأمريكية عقوبات على طيران ماهان (خاص) عدة مرات منذ 2011 بتهمة “دعم الإرهاب، وتقديم الدعم التقني والمالي للحرس الثوري الإيراني”.
كل ما سبق يعني أنه عندما كانت السعودية تحارب الميليشيات الشيعية في سوريا، واليمن، ولبنان، والعراق، في محاولة منها لصد توسع إيران في المنطقة، كانت تقدم تسهيلات إماراتية لدعم طهران لهم!
والنتيجة هي الفشل الذريع في سوريا من خلال إلقاء اللوم على قطر!
بل إن الدعم كان يوجه أيضا لنظام بشار الأسد.
في 2014، قدم العديد من الأفراد والشركات التي لها فروع في الإمارات، وخاصة في قطاع النفط، دعما نشطا للأسد ومنظومته الجوية من خلال توفير النفط والوقود لهم.
ففي 2016، فرضت الخزانة الأمريكية عقوبات على شركات بتهمة توفير الدعم لنظام الأسد، ومساعدة برنامجه لأسلحة الدمار الشامل، من بينها شركة “يونا ستار” (مقرها دبي)، ومديرها التنفيذي صلاح حبيب الذي يعمل ممثلا للاستخبارات السورية والقوى الجوية السورية، وغيرها من الكيانات الحكومية، بما فيها مركز الدراسات والبحوث العلمية، الذي يركز على تطوير الأسلحة البيولوجية والكيميائية لنظام الأسد.
من الواضح أن القضية الإيرانية ليست القضية الحقيقية في أزمة الخليجية الحالية، ومع ذلك، فإن اتهام قطر بأنها قريبة جدا من إيران وميليشياتها هو مجرد وسيلة فعالة لاستمالة الجمهور العربي بوجه عام، والسعودي على وجه الخصوص، الذي يحمل مشاعر قوية معادية لإيران بسبب سياساتها وأنشطتها التخريبية في المنطقة.
وبما أنهم (دول الحصار) ليس بيدهم أدلة تدعم مزاعمهم، فإن الأداة الوحيدة الموجودة أمامهم لترويج اتهامات مفبركة ضد قطر هي نبش قصص قديمة من الماضي البعيد.
قطر مثلها مثل باقي الدول الأخرى في الشرق الأوسط والعالم ربما تكون ارتكبت أخطاء في الماضي، أو حتى الآن، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الآخرين يسيرون على الطريق الصحيح.
وتبقى الطريقة الصحيحة للتغلب على هذه المشاكل هي زيادة التعاون وتعزيزه وتعزيز التنسيق بين دول النزاع.
في الحقيقة، تلك الدول تزعم أن مواجهة إيران، والقضاء على الإرهاب، وتحقيق الاستقرار هو محور وهدف هذه الحملة ضد قطر، غير أنه في أفضل الأحوال، اذا استمرت هذه الأزمة، فإنها لن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى زيادة نفوذ إيران، وإعاقة الجهود الأمريكية ضدها وضد الإرهاب، وانتشار التطرف، وخلق صراعات سنية سنية في المنطقة بأسرها، ودفع مزيد من الدول والجماعات في الشرق الأوسط بشكل مباشر أو قسرا للارتماء بأحضان إيران.
الاناضول