من بين الركام في قرية هجرها سكانها تحت وطأة القصف، يتربع شيخ ستيني قد رسمت الهموم على وجنتيه لوحة، منزل أبقت طائرات النظام منه غرفةً مصدعةً اتخذها هذا الشيخ مأوى له ينتظر الفرج أو الموت، حسب ما قال.
أبو خالد رجل يملك من المال الشيء الذي يساعده على العيش عيشة الملوك “حسب تعبيره”، خمسة أولاد شباب وبنتان وزوجة، سيارة وآليات زراعة وعشرات الدونمات من أراضي الفستق الحلبي، جعلت منه أحد وجهاء القرية وأبرز أغنيائها، لكن هذا كله كان قبل اندلاع الأحداث الدامية في سوريا.
يقول أبو خالد: “لم يكن يخفى على أي شخص يعرف أبا خالد، مدى العز والرغد الذي كان يمتاز به، ومع بداية الثورة في سوريا لم أتوانى لا أنا ولا أبنائي الخمسة عن الخروج في حراكها السلمي بدايةً، ومع تطور الأحداث، اندفع اثنان منهما للمشاركة في حراكها المسلح وكنت لهما من المشجعين، ولكن مرت الأيام وقست الظروف”.
بدأت تهديدات قوات النظام باقتحام البلدة فقمت بتهجير عائلتي إلى المناطق الأكثر أماناً، وبقيت مع ولدي المسلحين الذين كانا من المرابطين على أطراف البلدة، ثم بدأ الاقتحام فكانت فاجعتي بولدي البكر خالد الذي استشهد تارك ثلاثة أيتام، حمدت الله ورضيت بقضائه، وبعد دخولهم القرية قاموا بحرق كل ما أملك من أشجار وأراضي زراعية وسرقة الآليات والسيارة وقسم كبير من مقتنيات المنزل، بحجة أن أولادي من المسلحين.
بلدة اللطامنة في ريف حماة الشمالي أحد أكثر المناطق تعرضاً للقصف الجوي والمدفعي اليومي، بحكم تموضعها على خط التماس بين مناطق سيطرة النظام جنوباً ومناطق سيطرة الثوار في الشمال، هجرها سكانها منذ فترة طويلة بسبب ضراوة الغارات الجوية، بين لاجئ في تركيا، ونازح في مخيمات الشمال، حيث يتربع عليها عدد هائل من المنازل المدمرة بشكل كامل، ولا تجد من سكانها إلى القوي الشديد الذي مل التنقل ينتظر الفرج أو الموت كما الشيخ أبو خالد.
يتابع فيقول: “أبقيت على عائلتي فترةً من الزمن عند بعض الأصدقاء في القرى المجاورة، ولكن ليس للنهاية بوادر في الأفق، فقمت بإرسالهم إلى مخيمات الشمال على الحدود السورية التركية، رافضاً الخروج من البلدة، التي اعتبرها رغم كل ما حل بها عزي وكرامتي”.
وبعد تحرير البلدة بفترة، حيث أصبحت هدفاً يومياً للطيران الحربي والمروحي بشكل أكبر، وبينما كنت نائماً في المنزل بعد منصف الليل، وإذا بشاب ينادي “عمي أبو خالد”، خرجت مذعوراً وإذا بسيارة برفقتها ثلاثة شبان قد اصطحبوا معهم شهيدي الثاني، إنه محمد طالب هندسة كهربائية في حلب، ترك دراسته والتحق بالثورة المسلحة، كنت متوقعاً خبر استشهاده بين اليوم والآخر، لم أتفاجأ بالخبر، اصطحبته مع بعض من تبقى في القرية وقمنا بدفنه وحمدت الله على قضائه أيضاً”.
ومن ذاك اليوم وأنا قابع في ما تبقى من منزلي، ليس لي فيه إلا شرب الشاي ووضع بعض زهرات الياسمين بجانبها لأقارن بين الأمل والألم أنتظر الموت أو فرجاً من الله يخلصنا من هذا الوضع المزري، ولكي أبقي على القسم الآخر من عائلتي.
قصة أبو خالد قصة من آلاف قصص الألم التي حلت بالشعب السوري، تعكس شيئاً من صور المعاناة التي ستسطرها كتب التاريخ عاجزةً عن وصف شعب صمد في وجه الموت أعواماً، مقدماً عزه وكرامته على الذل والهوان.
المركز الصحفي السوري ـ ماهر الحاج أحمد