بعد تمرير مجلس النواب الأميركي لمشروع قانون قيصر وإحالته لمجلس الشيوخ، ومن ثم توقيع الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، عليه الأسبوع الماضي بدأت رحلة البحث عن قيصر وهو اسم مستعار لمصور منشق عن الشرطة العسكرية السورية سرَّب حوالي 55 ألف صورة لضحايا التعذيب في سجون النظام السوري، وهو شخصية غامضة لا يعرفها إلا أشخاص محدودون.
رحلةُ البحث هذه قادتني إلى معاذ مصطفى، المدير التنفيذي لفريق عمل الطوارئ السورية في الولايات المتحدة، وهو أحد المقربين جداً من قيصر، ويصفه البعض بأنه أحد رجال الظل الذين عملوا وراء الكواليس في الكونغرس الأميركي مع فريق من الاختصاصيين لصياغة قانون قيصر (سيزر بالإنجليزية).
صعوبة المقابلة مع قيصر الذي يلقبه البعض بـ “الشاهد الملك” تمثلت بالهواجس الأمنية وضرورة عدم ذكر أي تفصيل قد يؤدي إلى كشف هويته وهوية شريكه سامي (اسم مستعار لصديق قيصر)، الذي ساهم مع قيصر في توثيق صور الضحايا ومن ثم مغادرة سوريا ونشرها.
أخيراً تمكنت العربية.نت من إجراء مقابلة مع قيصر وشريكه سامي ومعاذ مصطفى ليخبرونا حكاية قيصر منذ البداية وحتى إقرار القانون الذي حمل اسمه.
المقابلة تنشرها العربية.نت في جزأين يتضمن كل جزء صورة حصرية وثقها قيصر وسامي، ولم ينشراها سابقاً لمعتقلين قضوا تحت التعذيب في سجون النظام السوري.
قيصر وصديقه سامي وبداية التوثيق
بدأت علاقة الصديقين قيصر وسامي منذ سنوات ما قبل الثورة ومازالت مستمرة حتى اليوم، وأسست علاقة الصديقين لعمل مشترك يصفه البعض بأنه الأخطر منذ بدء الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، فكان عمل قيصر هو تصوير ضحايا التعذيب، وإرسال الصور إلى سامي لأرشفتها وحفظها في مكان آمن.
يستهل سامي المقابلة بالحديث عن علاقته بقيصر وبداية عمله معه في التوثيق، قائلاً “علاقتي بقيصر تمتد إلى سنوات عديدة قبل الثورة، وتعززت ثقتنا ببعضنا البعض خلال الثورة، وخلال قيامنا بهذا العمل الذي يتطلب درجة عالية من السرية، بدأنا التنسيق للقيام بأعمال التوثيق في بداية الشهر الثاني للثورة السورية، وكنت أزود القيصر بالذاكرة الإلكترونية (الفلاش ميموري) ليحفظ الصور عليها من مقر عمله ونقلها عبر طريق طويل من المخاطر حتى تصل إلى يدي حيث تبدأ المرحلة الثانية من عملية الحفظ والتوثيق”.
صور أول 15 جثة
بدوره، استذكر قيصر أولى المهام التي كلف بها مع بداية المظاهرات السلمية في العاصمة دمشق، قائلاً للعربية.نت “في بداية الثورة وأثناء المظاهرات السلمية بدأ النظام بقتل المتظاهرين واعتقالهم وتعذيبهم، مع اشتعال المظاهرات في درعا طلبت الجهات الأمنية من مصوري الشرطة العسكرية وكنت من بينهم أن نصور ونوثق حوادث معينة وحالات وفاة، في أول مهمة لي صورت قرابة 15 جثة في مشفى 601 العسكري بمنطقة المزة، لاحظت أن الضحايا تعرضوا للتعذيب، في تلك اللحظة قررت الانشقاق فوراً ومغادرة البلاد، لأنني لا أريد أي دور في الدم السوري رغم أن عملي اقتصر في حينه على التصوير فقط”.
وتابع “بعد المشاورة مع صديقي سامي اتخذنا قراراً خطيراً، وقررنا البقاء في دمشق ومواصلة العمل على توثيق الجرائم، استطعنا توثيق تقريباً 55 ألف صورة لضحايا فيهم آلاف النساء والأطفال وكبار السن، تم تعذيبهم حتى الموت”.
خوف وقلق شديد عاشه الصديقان أثناء عمليات التوثيق والتي استمرت لعامين ونصف، سواء لجهة قيصر الذي كان يعايش يومياً مشاهد جديدة من الموت الذي يتعرض له المعتقلون، أو شريكه سامي المسؤول عن حفظ تلك الصور بعيداً عن قبضة السلطات الأمنية.
“كان الخوف يلازمنا طوال الوقت من احتمال مداهمة البيوت أو فقدان الوثائق تحت أي ظرف لذلك اتخذت الإجراءات الكفيلة بوصول الصور إلى من يستطيع نشرها وفضح النظام بحالة موتي أو اعتقالي” أوضح سامي للعربية.نت.
إلى ذلك، أضاف “فعلاً حدثت عملية مداهمة لأحد البيوت التي استخدمتها، وتمت مصادرة أجهزة حاسوب، ولكنها لم تكن هي الأجهزة التي احتفظ عليها بالمعلومات، ولم يكن النظام يشك بأي نشاط لنا”.
بتر أعضاء وقلع العيون وجثث محروقة
أما قيصر شاهد العيان على المجازر فيستذكر في حديثه للعربية.نت بعض ما عاشه وشاهده في تلك الأيام، قائلاً “عندما كنا نتوجه كمصورين إلى المشافي العسكرية وتحديداً مشفى تشرين العسكري ومشفى 601 في المزة، وهي المشافي التي يتم فيها تجميع جثث الضحايا من جميع الأفرع الأمنية كنا نشاهد أفظع أنواع التعذيب الذي مورس بحق هؤلاء الضحايا الأبرياء، كنا نشاهد أعضاء مبتورة كأصابع اليد أو قلع العيون وجثث شبه محروقة أو كسر أسنان وآثار ضرب بكابلات كهربائية، وأجسام ضعيفة وهزيلة نتيجة التجويع المتعمد لأشهر وربما سنوات”.
بالإضافة إلى دوره كمؤرشف للصور، ساعد سامي صديقه قيصر في الخروج من سوريا، وغادرا دمشق في آب/ أغسطس عام 2013، وبحوزتهما 55 ألف صورة تقريباً لضحايا التعذيب في المعتقلات السورية نشروا الآلاف منها، وآلاف لم تنشر بعد وفق ما أكد قيصر وسامي ومعاذ مصطفى في حديثهم للعربية.نت.
يشار إلى أن قيصر وسامي يقيمان الآن في أوروبا، بينما يزور الأول الولايات المتحدة بين الفينة والأخرى لاستمرار العمل على قانون قيصر والتأكد من تطبيقه، ومازالا يتصلان بنواب ومسؤولين في حكومات غربية لشرح جرائم النظام ضد المعتقلين ومواصلة العمل القضائي في عدة دول أوروبية ضد النظام وشخصيات ساهمت بعمليات التعذيب.
إدارة أوباما ترفض شهادة قيصر
أما عن بداية العمل على مشروع قانون قيصر لمحاسبة النظام السوري، فروى قيصر ومعاذ مصطفى للعربية.نت بداية عملهما وشهادة قيصر أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي، مؤكدين وجود تحديات كثيرة أعاقت الوصول إلى مشروع القانون، قبل التمكن من إقراره لاحقاً.
فأكبر مشكلة أمام إقرار القانون كانت بحسب قيصر ومصطفى “إدارة الرئيس أوباما، لأنها كانت في البداية تعارض شهادة قيصر أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، لدرجة أننا كذبنا على الإدارة الأميركية زاعمين أن قيصر سيأتي للاجتماع فقط مع مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI للتأكد من وجود أميركيين بين الضحايا دون الحديث عن الصور والوثائق التي بحوزته والاجتماع مع الكونغرس، ولكن عندما علموا بحقيقة سعينا لشهادة قيصر أمام مجلس النواب حاولت الإدارة الأميركية تأخير إعطائه تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة إلى وقت لا تنعقد فيه جلسات مجلس النواب، وبالتالي عدم إمكانية تقديم الشهادة”
قيصر أمام مجلس النواب
إلا أن جهود الفريق أثمرت بحصول قيصر على تأشيرة دخول الولايات المتحدة وحضوره جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب.
وفي هذا السياق، استذكر مصطفى تلك الجلسة قائلاً “عملنا بشكل مكثف لتأمين وصول قيصر إلى الولايات المتحدة بالوقت المناسب، وكانت الشهادة يوم 31 يوليو/تموز 2014 الساعة التاسعة صباحاً على وجه التحديد أذكر هذا التوقيت وهذه اللحظات كأنها أمامي الآن، أجرينا شهادة قيصر التي كانت مهمة جداً، لأن كل التكتلات في المجلس سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية شاهدوا وفوجئوا بحجم الصور، نحن كسوريين نعلم تماماً حجم الإجرام الذي يمارسه النظام لكن لا يمكن إقناع الغربيين والأميركيين بوجهة نظرنا دون حجة دامغة، لذلك عرضنا الصور داخل الجلسة وأعتقد أنها كانت المرة الأولى التي يوجد فيها شاهد أو شخص يتحدث داخل المجلس وهو متخفٍ بشكل كامل”.
تشكيل فريق قيصر
بعد خروج قيصر وسامي من سوريا عمدا مع معاذ مصطفى إلى تشكيل ما بات يعرف بفريق قيصر، انضم إليهم منظمات سورية في الولايات المتحدة الأميركية والسفير الأميركي السابق للجرائم ضد الإنسانية، ستيفن راب، وآخرون في غرب أوروبا.
ولعب قيصر بحسب الفريق دوراً كبيراً في إنجاز مشروع القانون عبر عشرات الاجتماعات والاتصالات ساعياً للوصول إلى هذا القانون، فهو لم يساهم في نشر الصور فقط بل أيضاً في التواصل والعمل المستمر وبكافة السبل لفضح جرائم النظام.
بحسب مصطفى ركز الفريق على العمل القضائي ومحاولة إيصال ما يجري من ظلم في معتقلات النظام للعالم، “لذلك نظم معارض صور في عدة برلمانات منها البرلمان الأوروبي والبريطاني والكندي وطبعاً الكونغرس الأميركي، وفي معرض المحرقة في واشنطن وفي هذا المعرض عرضنا هاتف قيصر ووحدة التخزين التي حفظ بها كل الصور”.
كما أضاف قائلاً “بعد كل ما عرضناه في شهادة قيصر أمام مجلس النواب كان هناك إحساس لدى كثيرين بضرورة عمل شيء طالما هم مؤمنون بقواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان المعمول بها في الولايات المتحدة، لذلك بدأنا العمل على قانون مشروع قيصر الذي حمل اسمه، وحاولنا تأمين دعم القانون من كلا الحزبين”، ويتابع “استطعنا الحصول على 100 داعم لمشروع القانون من الجمهوريين والديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ وبدأنا أولى الخطوات بتمرير مشروع القانون في مجلس النواب أولاً ثم إحالته إلى مجلس الشيوخ”.
إلى ذلك، أكد مصطفى أن الفريق لعب أيضاً دوراً رئيسياً في قضايا ضد النظام السوري في أوروبا، ومنها ألمانيا، فسامي هو من تقدم بالادعاء باسمه الشخصي مع آخرين في المحاكم الألمانية، كذلك تقدم فريق قيصر بقضية في السويد وإسبانيا وفرنسا وأخيراً في النرويج.
نقلا عن: العربية