يقول عبد الرحمن الكواكبي، الثائر الحلبي: “المستبد لا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة وإنما يتلهى بها المهووسون، لكن ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم أو السياسة المدنية وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم المسبقة للشمس المحرقة للرؤوس”. لقد كانت له مقولات كثيرة ومؤثرة في وصف الاستبداد والمستبدين، ولكن مثل هذه الكلمات التي تنادي بالحرية والتحرر والتصويب على الاستبداد والطغيان تكون نتيجتها الهلاك وموت صاحبها.
خلال التجارب التاريخية القريبة، لا يمكن أن تقبل المنظومة العربية الحالية التي هي نتاج الاستعمار الغربي لبلادنا العربية لفترة طويلة، أي نوع أو نموذج آخر من الكواكبي وأمثاله الذين يتوقون إلى الحرية المنشودة والديمقراطية التي تحرر البشرية من طغيان الطغاة، وتفرض السيادة الشعبية. فلقد بقيت الديمقراطية شعاراتٍ تُستخدم من قبل الطغاة من أجل الحفاظ على حكمهم وعروشهم.
منذ سقوط الدولة العثمانية نشأت دول حديثة بمفهومها الحديث، حيث تحكمها شخصياتٌ حوّلت البلاد إلى مزارعٍ خاصة، وكل الشعوب عبارة عن عبيد يعملون ضمن هذه المزارع ولصالح الطبقة الأوتوقراطية، تلك الدول تُحكم بالحديد والنار، ولا مكان لمفهوم الحرية والسيادة الشعبية ولا مكان للثورات والتغيير السياسي الذي حلم به كل عربيٍ حر.
“ذهبت العروبة السليمة وبقي الطغيان”، هذا هو العنوان الصحيح لقمة جدة التي حصلت منذ عدة أيام، فلقد كان مشهد عودة النظام السوري إلى الأحضان العربية صادماً.. للحقيقة ليس صادماً بل هو متوقع، ولكن حدوث الشيء غير توقعه.
إن دخول رئيس النظام إلى المؤتمر يشبه دخول الفاتحين وقاهري الأعداء والقادة العظماء الذين انتصروا في معاركهم على أعداء الوطن والشعب، ولكن دخوله للأسف يعيد الأمة إلى زمن ما قبل الربيع العربي. هذه القمة تمثل إعادة إحياء المنظومة العربية المستبدة التي لا تقبل الحريات للشعوب ولا الديمقراطية، ولقد كان ذلك جلياً في البيان الختامي للقمة، حيث لم يُذكر أي مصطلح يرمز إلى الديمقراطية والحرية، ولا أي نوع من التغييرات السياسية التي تطمح لها الشعوب العربية.
لا مكان للذين يقولون “لا” في هذه المساحة الجغرافية الواسعة والشاسعة، هذا هو الرد للمنظومة العربية على الثورات العربية التي حصلت منذ عقدٍ ونيف، فهذه الكلمة تُؤرق الطغاة وتزعج العبيد وتؤلم المستبدين وتزعج الضعفاء والمساكين. فلقد خرج الملايين من الناس عند بداية الربيع العربي يقولون لا للأنظمة الاستبدادية والقمعية، فكانوا يحلمون بإسقاط الأنظمة السياسية التي دمّرت أحلامهم وجعلت أقصى طموحهم الحصول على وظيفة متواضعة يستطيع فيها الفرد أن يأكل ويشرب ويؤسس عائلة؛ بالكاد يؤمن لها قوت يومها، فلقد حلموا بدولة قادرة على إنتاج ثقافات جديدة وقادرة على أن تتقبل التنوع الثقافي والديني وتطبق الديمقراطية الصحيحة والحقيقية كنموذج للحكم، لقد أمِلوا أن يروا الحرية والتحرر والخروج من عباءة المستعمِر والمستحمِر، ولكن الواقع كان بعيداً جداً عن المثاليات.
فلقد اصطدمت تلك الأحلام بجدران الجهل والتبعية والأنظمة الرجعية التي تقبل بحرق البلاد ودمارها ولا تقبل بسقوط عروشها. يقول الكواكبي: “الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح ويصبح -كذلك- النُصح فُضولا، والغيرة عداوة، والشهامة عُتوّا، والحَميّة حماقة، والرحمة مرضا، والنفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفا، والنذالة دماثة”.
وصلت نيران الثورات العربية إلى سوريا، فإن نجحت هناك، فإنها لن تبقى في حدودها الشامية إنما سوف تتدحرج إلى باقي الدول العربية مثل أحجار الدومينو، فُشوهت وأُدخل فيها كل الفصائل الشاذة فكرياً من أجل تغيير الرأي العام لهذه الثورة، ولقد نجحوا في ذلك، فوضعوا الشعب السوري أمام خيارين؛ إما النظام وإما الإرهاب. هكذا تم إسقاط مفهوم الثورة ورمزيتها من عقول الملايين الذين حلموا بالحرية والتغيير، واليوم يكافَأ النظام على ما فعله بحمزة الخطيب والساروت وغيرهم من الذين قضوا نحبهم في سبيل الكرامة والدولة المدنية ودولة القانون؛ التي تتسع لجميع المكونات العرقية والطائفية والدينية.
عادت المنظومة القديمة وانقضّت على جميع الثورات التي قامت بها الشعوب العربية وأنهت كل أحلام الأحرار، فإن عودة النظام السوري إلى الحضن العربي هو الخنجر الأخير في ظهر الثورات العربية وإلى مفهوم العروبة الحقيقية أو ما تبقّى منها. لقد أُحكم الحصار على كل الأصوات التي رُفعت عالياً بوجه تلك الأنظمة، مات الكثير وهاجر الكثير وسُجن الكثير أيضاً، ولم يبق إلا المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة، وبعض المنتفعين والمستفيدين من تلك المزارع المملوكة لبعض الشخصيات وعائلاتها، وبقي الطغيان.
يقول الكواكبي: “أشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش القائد للجيش الحائز على سلطة دينية”.. وكأنه يعيش بيننا اليوم ويرى كيف هي أشكال الدول التي تحكمنا، دول أوتوقراطية محكومة من طبقات أوليغارشية ورأسمالية متحالفة مع المؤسسات العسكرية، تختلف أنواعها وأشكالها من مكان إلى آخر ولكن بنيتها الأساسية تبقى نفسها ولا تختلف على الإطلاق.
ولكن هناك من يؤمن بمقاربة سياسية خاصة مفادها أن العرب يحاولون استمالة النظام إلى الحضن العربي وإخراجه من العباءة الإيرانية والمليشيات الطائفية عبر عودته إلى الجامعة وإغرائه بالمال ومزايا اقتصادية أخرى، ولكنها للأسف مقاربة خاطئة، فغفل عنهم أن المستبد الذي يعتقد أنه لم يُهزم في الحرب لن تغريه الدبلوماسية وأموالها، فهو سوف يحصل عليها عاجلا أم آجلا.
لو قمنا بالتشريح البنيوي للخطاب السياسي الذي أطلقه رئيس النظام بشار الأسد في قمة جدة على الطريقة الفوكوية (ميشال فوكو) سندرك أن هذا النظام لم لن يتغير، وهذا ما عبّر عنه وزير الخارجية فيصل المقداد، فإن رأس النظام يعتبر نفسه منتصراً وجاء كي يعلّم الآخرين عدة دروس، لقد أعطاهم دروساً في العروبة والتفريق بين عروبة الانتماء وعروبة الأحضان، لقد أعطاهم دروساً في عملية الاستنهاض واستغلال اللحظات التاريخية من أجل الخروج من التبعية الغربية والليبرالية وشرورها وطروحاتها المخالفة للفطرة، أعطاهم لمحة تاريخية عن النوايا للإمبراطوريات الغابرة التي تسعى تركيا اليوم لإحيائها الوريث الشرعي للدولة العثمانية.
لقد كانت حفلة استعراض بامتياز ودروس وعِبَر، وللأسف غابت عنهم مقولة جمال خاشقجي في مقاله في واشنطن بوست: “إذا كانت السعودية حقاً قلقة من الوجود الإيراني في سوريا، فعليها أن تسعى لإخراج طهران بنفسها، وألا تنتظر الأمريكيين أو الإسرائيليين للقيام بذلك. عندما يتمكن السوريون من الحصول على الحرية التي طالبوا بها منذ عام 2011، عندها فقط ستجبر إيران على الخروج من اللعبة”.
ماذا بقي من العروبة؟ ماذا بقي من الأمة التي ذُبحت مرتان؛ الأولى عندما قُتلت وشُردت لأنها رفعت شعار الحرية والثانية عندما تم احتضان قاتلها وجلادها؟ للأسف لم يبق من العروبة أي شيء لأنها لم تكن العروبة الأصيلة القائمة على الشهامة والأصالة والعنفوان، فهذه التي نعيشها اليوم هي صنيعة الاستبداد والطغيان التي تهدف إلى تجهيل الشعوب وتدجينهم عبر عبارات أيديولوجية مثل البعث والقومية وغيرها من المسميات الكاذبة.
إن ضريبة الحرية غالية وسلعتها باهظة الثمن، وللأسف إن شعوبنا غير مستعدة اليوم للتضحية ما فيه الكفاية للحصول على حريتهم، وهذا يحتاج إلى تراكم معرفي وتكوين نظام معرفي جديد ينهض بالأمة، ويحتاج للتضحية من أجل الحصول على العلوم الفلسفية والعقلية والمادية وبناء الرجال وتكوين هوية مترسّخة ووعي مرتفع.. لا تغيير دون استخدام أدوات النهضة وشروطها الصحيحة من أجل مواجهة الطغيان والاستبداد.