يبدو أن الاتفاق الأميركي-الروسي الذي تسربت بعض تفاصيله إلى وسائل الإعلام, قد دخل حيز التنفيذ قبل الإعلان عنه, وربما هو مخطط مرسوم منذ بداية الثورة السورية, تتعاون جميع الأطراف على تنفيذه وفق مراحل زمنية متباعدة, كما يعتقد ذلك أغلب ناشطي الثورة السورية.
صلب الاتفاق الأميركي – الروسي كما تسربت بعض تفاصيله, هو التعاون الوثيق على “مكافحة الإرهاب” في حلب تحديدا, مقابل فرض منطقة منزوعة السلاح شماليها مع قيام النظام بالكف عن استهداف المدنيين وأيضا استهداف ما تسميها واشنطن بالمعارضة المعتدلة من قبل الطيران الحربي التابع له, وطبعا يشمل هذا الاتفاق أيضا, تعليق الطلعات الجوية للطيران الروسي وضمان عدم استهدافه للأهداف التي تتعارض مع الرغبة الأميركية!
إذن هناك أهداف معدة مسبقا للقصف لا تتعارض مع الرغبة الأميركية – الروسية, تتعلق هذه الأهداف بالرؤية الأميركية – الروسية للفصائل التي يصفها الطرفان بأنها فصائل إرهابية, أو فصائل متعاونة مع الإرهاب، بحسب معايير خاصة بكلتا الدولتين.
ولكن السؤال المحير:
ما المعايير التي تتفق عليها الدولتان الأمريكية والروسية لتحديد الأطراف الإرهابية؟
ثم: لماذا يتم التركيز دائما في أي اتفاق يتم فيه وضع تصنيف للفصائل “الإرهابية”, على تحييد الإرهاب الذي يقوم به النظام السوري وتلك المليشيات الطائفية المساندة له والمدعومة من حكومة طهران وبشكل علني وصريح؟
للإجابة على هذا السؤال على السوريين أن يعودوا بالذاكرة قليلا إلى أحداث وتفاصيل الحرب الأمريكية على العراق, كيف تمكنت واشنطن وبدعم دولي كبير – بنوعيه العلني والخفي – من ضرب تجربة المقاومة العراقية الشريفة عن طريق خلط الأوراق بين أبناء الشعب العراقي واللعب على وتر الإرهاب؛ من خلال استخدام هذه الورقة التي دائما ما تطرحها الدول الكبرى في أي قضية تخص الشعوب العربية والإسلامية لتمييعها وتفريغ محتواها الأساسي من المضامين التي تحقق المصالح العليا لتلك الشعوب.
لن ندخل في سياق المقارنة بين التجربة العراقية السابقة والتجربة السورية الراهنة, لأنها مختلفة في العديد من التفاصيل, فضلا عن اختلاف الظروف والبيئة السياسية الدولية في كلا الحقبتين, فالتجربة السورية تبدو أكثر تعقيدا وتشعبا, إلا أن وجه التشابه الأكبر بينهما هو إصرار الأطراف الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية على حرف البوصلة عن مسارها الصحيح وضرب العمق الداخلي لكل من سورية والعراق عن طريق دعم لون “طائفي” محدد والتغاضي عن كل جرائمه, وإلصاق التهمة بلون طائفي آخر “الضحية” والتغاضي عن كل الجرائم المرتكبة بحقه.
وضمن هذا النطاق يتّهم ناشطو الثورة السورية, وأغلب الشخصيات المعارضة الولايات المتحدة الأمريكية بالتواطؤ مع روسيا وجميع الأطراف الأخرى الداعمة “للأسد”, وخصوصا بعد أن قامت طائرات التحالف الدولي التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية باستهداف قيادات من “جيش الفتح” الذي له الفضل الأكبر في معظم التقدم الحاصل على جبهات حلب خاصة في الفترة الماضية.
تدرك الولايات المتحدة الأمريكية جيدا أن الانتصارات التي تمكن جيش الفتح من تحقيقها هي انتصارات عظيمة وكبيرة, جعلت العديد من الخبراء والمحللين العسكريين الدوليين يقفون عاجزين عن شرح الآليات العسكرية المتبعة من قبل جيش الفتح وبعض الفصائل العسكرية الأخرى المتحالفة معه التي كان لها الدور البارز في حسم العديد من المعارك لصالحها, ولا يخفى على أحد أن مؤسسة جامعة للعديد من الفصائل الثورية كجيش الفتح, هي مؤسسة عسكرية قد تغرد خارج السرب الذي تدعمه واشنطن وترغب بوجوده مستقبلا, لأنه يعمل وبشكل مباشر وفق أجندات محلية واضحة تعارض الأجندات الدولية التي تريد فرض “بشار الأسد” في المستقبل السياسي السوري في أي تسوية سياسية تتم عن طريق مجلس الأمن الدولي الذي هو بالأساس مطية لتحقيق أهداف الأطراف الدولية القوية فقط.
يبدو أن الخطوة الحاسمة التي أقدم عليها “أبو محمد الجولاني”, القائد العام “لجبهة النصرة” سابقا والمسماة جبهة “فتح الشام” حاليا, عندما أعلن عن فك ارتباطه بتنظيم “القاعدة” نزولا عند رغبة العديد من السوريين الثائرين في الداخل, يبدو أن هذه الخطوة الشجاعة لم تشفع له عند دوائر صنع “المؤامرات السياسية” في واشنطن, بل أصّرت الإدارة الأمريكية على الاستمرار في إلصاق تهمة الإرهاب بجبهة فتح الشام إرضاء للرغبة الروسية ومن خلفها رغبة حليفها الوثيق: النظام السوري.
وبالعودة إلى موضوع المعايير التي يتبعها المجتمع الدولي في فصل الأطراف الإرهابية عن غيرها من الأطراف “المعتدلة” من فصائل المعارضة السورية المسلحة, يبدو أن هذه المعايير التي اتفقت عليها كل من روسيا والولايات المتحدة, هي ليست معايير اتفاق من أجل الاتفاق, وإنما هي معايير تخدم الأطراف الدولية المعنية بتأمين مصالحها على الأرض السورية التي تدعم النظام السوري حتى النهاية, المعايير تشمل الجهات التي تحارب ضد النظام وتستثني الجهات التي تحارب الشعب السوري الأعزل إلى جانب النظام.. تصنيف سافر لا يعبر إلّا عن الرغبة الأمريكية الروسية بإعادة تسويغ “مشروعية النظام” التي من شأنها أن تقدم الحماية الكاملة لكل رموزه الذين تورطوا بدماء السوريين الأبرياء.
ودائما ما تكون نتائج الاتفاقات الدولية هي فرض قيود قوية تحد من أي عملية عسكرية من شأنها أن تقدم نصرا كبيرا على الأرض للثوار, بينما تسمح للنظام بالتمادي بالقصف والقتل والتهجير, وما قام به طيران التحالف وما سيقوم به في الأيام القادمة ليست إلا خطوة على طريق استمرار الجرائم المرتكبة بحق السوريين الأبرياء في المناطق المحررة, وهذا ما يعوّل عليه النظام إضافة إلى كل من روسيا وإيران.
أخيرا.. يشكك السوريون بكل اتفاق معلن أو سري تبرمه الولايات المتحدة الأمريكية مع روسيا, بل ويتهمونها بالسعي الكبير لضرب المد الثوري في سورية الذي بات يهدد أكثر الأنظمة الشمولية دموية في منطقة الشرق الأوسط صاحب الباع الطويل في تقديم الخدمات للأمريكان قبل غيرهم, فكيف ستصنفه الولايات المتحدة على أنه من الإرهاب؟
سؤال ليس برسم الإجابة وإنما هو لا يعدو أن يكون إضاءة واقعية لقراءة الأحداث بمعزل عن التحليلات والتصريحات السياسية.
المركز الصحفي السوري – فادي أبو الجود