(لم يتبق للمرأة إلّا أن تعمل كسائق على خطوط النقل العام وسيارات الأجرة “التاكسي” لتغطي النقص الحاد في عدد الشباب والرجال وبمعنى آخر النقص في عدد الذكور بشكل عام), هكذا تقول “أم جميل” وهي موظفة في إحدى المؤسسات التابعة للقطاع العام “الحكومي” في مدينة حلب وتعيش في حي الحمدانية المجاور للأكاديمية العسكرية الذي يخضع لسيطرة النظام, متحدثة بألم وحسرة عن أيام مضت كانت فيها مدينة حلب مفعمة بالنشاط والحيوية وصخب الحياة وضجيجها.
تكمل “أم جميل” قائلة (كل شيء تغيّر في رتم الحياة اليومية المعاشة في مدينة حلب, فالوجوه السابقة رحل الكثير منها إلى جهات مجهولة أو معلومة, لا فرق بينهما المهم أنهم رحلوا وحلّت مكانهم وجوه أخرى تتحدث بألسنة أخرى غريبة عن اللسان الذي تربينا عليه.. “المليشيات العراقية”, كل شيء هنا يسير ببطء وبعشوائية كبيرة, لأن المقيمين هنا يعلمون جيدا أن الأمور ليست ثابتة، بل يمكن أن تتغير في ليلة وضحاها من حال إلى حال, الشوارع شبه فارغة وتشكو من فقدان ضجيج المارة والحركة المرورية ضعيفة للغاية, ولكن كل هذه الأمور نعتبرها أمورا ثانويةً لا تشكل بالنسبة لنا إلّا حالة عابرة تبعث الحزن في النفوس.
لكن ما يحز أكثر في النفوس وما يشكل هاجسا متعبا للناس هنا هو النقص الحاد والمتزايد في أعداد الذكور المقيمين في أحياء حلب التي تسيطر عليها قوات النظام, صحيح أن الكثير من العائلات قد هاجرت من هنا, إلّا أن الشريحة الأساسية التي تأثرت بوجودها هنا, هي فئة الذكور والشبان تحديدا الذين كانوا الطاقة الخفية التي جعلت من مدينة حلب تحتل المرتبة الأولى في سورية من حيث الفاعلية وتوفّر فرص العمل فيها.
ومن الطبيعي أن نلتفت اليوم يمينا وشمالا لنجد أنهم اختفوا أو غيِّبوا أو رُحِّلوا, فكثير منهم غادروا أهلهم وتوجهوا إلى الأحياء الشرقية التي تسيطر عليها قوات “المعارضة” ومنهم من يقبع حاليا في غياهب السجون والمعتقلات في فروع الأمن التابعة للنظام وبمختلف أشكالها ومسمياتها.
أما القسم الثالث منهم أو ما يسمى “بالرماديين” فقدا اختاروا طريق الهروب والهجرة من هذه الأحياء وانسحبوا بشكل متدرج ومتسارع لأن الحياة قاسية جدا في ظل الضغوط النفسية والخوف المتزايد من شبح الاعتقال التعسفي أو الاقتياد الإجباري إلى الخدمة في الجيش سواء كانت إلزامية لفئة الشباب أو احتياطية لفئة الرجال، فقد باتت فئة الذكور مقتنعة تماما أنها تدفع الثمن الآن نتيجة لمواقفها الرمادية السابقة التي ظنّوا أنها ستحميهم من اليد الطولى للنظام وظلمه، وفجأة وجدوا أنفسهم ضحية لتسلط النظام وعناصره عليهم حتى أصبحت تلك الخدمة الإلزامية والاحتياطية كابوسا ثقيلا يؤرق عيشهم وعيش عوائلهم، لذلك وجدوا أن الهروب من هنا هو الحل الأمثل والأفضل وعلى الأقل كي يبحثوا عن أمل جديد لحياة جديدة.
وفيما يبدو أن هذه المشكلة فعلا قد تفاقمت وبشكل كبير ولكنها ظلت ولفترات طويلة بعيدة عن الاستهلاك الإعلامي في وسائل الإعلام التي اكتفت بالإشارة إليها فقط، في حين أن التوازن البشري الفئوي بين الجنسين اختل بشكل واضح وأصبحت النسبة المئوية بين تواجد الذكور وتواجد الإناث متفاوتة بشكل كبير وهذا ما أكدته “نور الإدلبي” وهي طالبة جامعية تدرس في جامعة حلب وتقول: (أستطيع أن أميز الفرق بين نسبة تواجد الذكور ونسبة تواجد الإناث هنا في أحياء النظام داخل مدينة حلب من خلال مشاهداتي وملاحظاتي للنقص الكبير في أعداد الطلاب الشبان الذين بات حضورهم في الجامعة خجولا جدا، وأخشى أن يتحول في الأيام القادمة إلى حضور نادر جدا، وعندما تدخل إلى دوائر “النظام” تجد أن العاملين فيها جلُّهم من النساء وهذا طبيعي، فالنساء لسن مطالبات بالخدمة العسكرية، كما يفعل الطلاب الخريجون مضطرين، ليضيع حاصل سنوات دراستهم تحت أقدام شعار “فداءً للأسد”، لذلك غالبا ما تتلقف الفتيات الخريجات كل فرص التوظيف والعمل هنا).
وبعد كل ما تقدم من تفسيرات، أعتقد أننا لن نستغرب التساؤل الذي طرحته أم جميل هل ستعمل المرأة كسائق “تاكسي عمومي” في مناطق النظام؟
المركز الصحفي السوري – فادي أبو الجود