قدّم المفكّر الفرنسي ميشيل سورا الذي عاش ما بين (1947- 1985م) واحدة من أهم الدراسات التي تحلل بنية النظام السوري إبّان حكم الأسد الأب والتي تتطابق إلى حد التماهي مع بنية النظام اليوم في عهد ابنه بشار.
قُسِّم الكتاب إلى أربعة أقسام خُصّص الأول منها لمفهوم “إرهاب الدولة” ثم لينتقل في القسم الثاني إلى دراسة “الحركة الإسلامية” في سورية أما الثالث فكان لدراسة “السكان” ولينتهي الكتاب في قسمه الرابع الذي خُصِّص لدراسة عن “المدينة العربية الشرقية”.
الحركة الإسلامية بحسب سورا كانت جزءاً لا يتجزأ من المجتمع السوري تعرضت للإقصاء من الجناح العلوي في السلطة الذي جيَّر مقدرات الدولة ليتملّك السيطرة المطلقة بلا منازع.
فحينما انطلقت في عام 1964 احتجاجات طلابية في مدينة حماة أيّدها علماء الدين قام أمين الحافظ رئيس المجلس الثوري بقمع الاحتجاجات وهدم جامع السلطان الأثري في حماة ثم قام الضابط إبراهيم خلاص بنشر مقال في مجلة (جيش الشعب) يدعو فيها إلى الإلحاد فكانت ردود الفعل قوية نتج عنها مظاهرات كثيفة بقيادة علماء الدين في حلب وحماة وحمص ودمشق.
في عام 1970 اكتملت سيطرة الجناح (الطائفي) في الجيش السوري بنجاح انقلاب اللواء حافظ الأسد ثم ليُنتخب رئيسًا للجمهورية في عام 1971 وقد بدأت الاضطرابات تهز كرسيّ حكمه إثر أزمة الدستور التي لم تُشَر مواده إلى دين الدولة أو دين الرئيس ودخل علماء الدين الاحتجاجات العنيفة في حماة فاضطر حافظ حينها إلى إضافة مادة تؤكد على أن دين الدولة والرئيس الإسلام؛ وذلك ليمنع الاحتجاجات من التوسع.
وبعد سلسلة من الاغتيالات التي وقعت في دمشق وحلب عام 1979 ظهر تياران للتعامل مع الاحتجاجات الأول تيار مهادن قاده شخصيات بعثية (سنية) كـ عبد الله الأحمر، ومحمود الأيوبي رئيس مجلس الوزراء، أوضحوا في بيانهم الحال الذي وصلت إليه السلطة من الفساد والمحسوبيات وغياب العدالة مع التأكيد على أن اللوم الأول موجّه إلى المتحكمين بالآلة العسكرية يقصدون الطبقة العلوية المسيطرة، وأنشئت عدة لجان للتحاور مع المثقفين والمفكرين لإبداء الرأي والتشاور وقد أيدت جماعة الإخوان البيان في مشهد سيتكرر فيما بعد في الثورة السورية عام 2011.
في المقابل فإن أشقاء حافظ الأسد كانوا يميلون إلى مناصرة الطريقة الدموية وقد أعلن رفعت الأسد في المؤتمر القطري السابع للحزب عن اقتراحات لاحتواء الأزمة الاحتجاجية منها: إصدار قانون التطهير القومي وإعادة تأهيل النظام التعليمي.
وصلت ذروة الاحتجاجات الشعبية عام 1980 إذ نفذت المدن السورية إضرابا شاملا واستثنى هذا الإضراب مدينة دمشق مناقضة بذلك حلب التي كانت خارج سيطرة الأجهزة الأمنية وتقود التحركات الشعبية.
رد حافظ الأسد على الاحتجاجات بخطاب في 8/ 3/ 1980 هاجم حركة الإخوان المسلمين مستخدماً عبارات مليئة بالدلالات الدينية لتقوم قوات الأسد (الطائفية) كسرايا الدفاع والقوات الخاصة والفهود الحمر بالعنف الدموي، فبدأت عمليات انتقامية بهدف قمع المدن التي كان أولها مدينة جسر الشغور حيث قُصفت بالطائرات الحوامة مع إخضاع المعتقلين فيها إلى محاكمات ميدانية وإعدامهم الفوري، أما حلب فكانت من نصيب القوات الخاصة والفرقة الثالثة بقيادة شفيق فياض الذي وقف على برج دبابته بعد اعتقال نحو 8 آلاف شخص مهددًا حلب بأنه سيقدم ألف قتيل منها يومياً إن لم يخبروه عن أماكن الفارين من جماعة الإخوان المسلمين.
يتطرق الكاتب سورا إلى مجزرة تدمر التي حدثت بقيادة معين ناصيف صهر رفعت الأسد ردًّا على محاولة اغتيال حافظ الأسد ثم خرج رفعت الأسد ليعلن إثر ذلك بأيام في صحيفة تشرين بأنه لن يتردد في خوض مئة حرب وتقديم مليون قتيل في سعيه لإيقاف المؤامرة.
ثمة مجموعة مهمة من المصطلحات التي يؤكد عليها سورا في تحليلاته كالعصبية والطائفة والسكان والسيطرة والمماليك الجدد والمدينة وجماعة الإخوان المسلمين، فهو يرى أن الطائفة العلويَّة استطاعت تحقيق ثالوث السيطرة من خلال: (الطائفة، البعث، الجيش) فقد كان محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد (العلويون) يحيلون ضباط الأكثرية إلى التقاعد المبكر ويستبدلون الأماكن الحساسة بقيادات جديدة موالية لهم مع جعل الأكثرية في أحسن الأحوال على الأطراف أو في حراسة الحدود.
رغم أن الطائفة العلوية تعاني من انشقاق عشائري بين قبيلتي (الحدادين والكلبية) حيث كان الأسد ينحدر من أصل غير عريق مقارنة بآل جركس أو الخيِّر في الطرف (الكلبي)، إلا أنه حاول تجاوز ذلك بإنشاء جمعية (علي المرتضى) التي هدفت لتوحيد الطائفة العلوية و تحديث الجهاز الديني بمعونة إيران التي ستبني بمشاركته محوراً شيعيًّا من لبنان إلى حدود باكستان يجعل دول الخليج وبترولها تحت رحمته.
وفيما يخص الجيش فيرى سورا أن الحركةُ الإسلامية لم تهتم بالجيش ولم تسع لكسب تأييده في الاحتجاجات القائمة للقناعة المترسخة في الأذهان بأن الجيش لم يعد مؤسسة وطنية وإنما أداة عنف تسيطر الطائفة عليها.
وفي هذا الإطار يشير سورا الى أن قيمة كل قائد علوي كانت تحدد بعدد حراسه فللرئيس مثلاً اثنا عشر ألف حارس بينما خصص لبعض الجنرالات ستون فرداً وصولاً إلى أسفل السلّم مثلاً حيث خصص لأسعد علي أستاذ البلاغة والنقد في جامعة دمشق أربعة حراس من الطائفة العلوية.
ونختم بالإشارة التي قدمها سورا في كتابه الى أن نماذج العنف التي أداها النظام مشابهة الى حد كبير النماذج التي اشتُهِرَت بها فرقة الحشاشين الإسماعيلية التابعة (لشيخ الجبل) وخاصة أساليبها في إرهاب الخصوم، ففي الحالة السورية لدينا الكتائب ذات الأسماء الرنانة (الفهود الحمر) (سرايا الدفاع) ذات اللون الطائفي الواحد والتي لا تسأل عن جرائمها التي تنفذها لمصلحة (المعلم)، كإعدام المئات في حلب وجسر الشغور ومجازر تدمر وحماة أو تلك الأعمال التي تستهدف كسر مقاومة المدن بتغييرِ بنيتها الطائفية بهدوء كما حصل في حمص من خلال توطين أقلية علوية فيها أو بعنفٍ كما حصل في مجزرة حماة.
كتاب سورا “سوريا الدولة المتوحشة” جدير بالقراءة فهو يقدم قراءة واعية لمرحلة سابقة لاتزال أثارها باقية الى وقتنا الراهن.
مقال رأي/محمد الحلبي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع