تعود جذور العلاقة القطرية التركية (العثمانية) إلى عهد السلطان عبد الحميد الثاني المولود في (21 أيلول/ سبتمبر 1842م) والمتوفى في (10 شباط/ فبراير 1918م) والذي تولى السلطنة والخلافة في (31 آب/ أغسطس 1876م) وخلع منها بانقلاب في (27 نيسان/ أبريل 1909).
وكانت قطر في تلك الفترة التي تولى فيها السلطان عبد الحميد الحكم سنة 1876م تشهد تنافسا سياسيا حادا بين الدولة العثمانية وبريطانيا منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبالتحديد بعد أن استطاعت الدولة العثمانية أن تبسط نفوذها على منطقة (متصرفية) الأحساء وتأسس إدارة عثمانية (قضاء) في قطر عام 1871م.
ولفت موقع قطر الاستراتيجي الهام على الخليج العربي، أنظار القوى المحلية والإقليمية والدولية آنذاك، بالإضافة إلى موقعها الاقتصادي كواحدة من أهم مغاصات وتجارة اللؤلؤ في منطقة الخليج العربي، ولا شك أن لهذا الموقع الاستراتيجي والاقتصادي انعكاسات سياسية على العلاقات بين القوى السياسية في الخليج العربي والقوى الدولية المتصارعة فيه آنذاك، وهذا ما جعل لقطر خصوصية واستقلالية في علاقاتها مع الدولة العثمانية.
وكان الحاكم في قطر هو الشيخ قاسم بن محمد بن ثاني مؤسس دولة قطر الذي استلم الحكم سنة 1877م بعد تنازل والده الشيخ محمد له بسبب تقدمه في العمر، وامتاز الشيخ قاسم بصفات فريدة، فهو من الحكام القلائل الذين اجتمعت فيهم صفات نادراً ما تجتمع في شخص واحد، فقد جمع إلى الحكم، العلم والخطابة والشعر والشجاعة، والفروسية، والتواضع، والجود، والنخوة، والشهامة، وإغاثة الملهوف، وتكتب في كل صفة من صفاته صفحات، وكان رجل الجزيرة العربية الأوحد في زمنه بلا منازع فكان كما وصفه العلامة محمد شكري الألوسي “من خيار العرب الكرام”، ووصفه علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، بأنه “كان من أبرز رجال العرب في عصره، ومن كبار أنصار الإصلاح الإسلامي، ويلخص أمين الريحاني الكلام عن صفات الشيخ قاسم بهذه العبارات “كان رجلا، ولا كالرجال عاش قرنا ويزيد في قطر، فكان أميرها، وخطيبها، وقاضيها، ومفتيها، والمحسن الأكبر فيها، يصرف واردات أوقافه على الجوامع والخطباء، بل كان هو نفسه يعلم الناس الدين، ويخطب فيهم خطبة الجمعة “، ثم يقول عنه: “فضلاً عن الورع والتقوى؛ فصاحة اللسان وإلى الفصاحة العلوم الدينية والفقه؛ وإلى العلوم الضمير الحي واليقين؛ وإلى ذلك كله الثراء والجود.”
ويتوقف المؤرخ والأديب سلمان الدخيل عند سعيه لخدمة الدين، فيقول: “هو من النابغين في الأمة العربية، العاملين لسعادة الدين والوطن، وقد آتاه الله من فضله خيراً كثيراً، ومن العلم والمال والولد”. ويقول أيضاً: “هو الأمير في هذه البلاد – أي قطر – وهو الخطيب يوم الجمعة، وهو القاضي، والمفتي والحاكم، ومن صفاته أنه إذا خطب أذهل السامعين وجلب قلوبهم إليه، وإذا أعطى فعطاياه جزيلة، وبالجملة فهو من أركان العربية وأنصارها، ومن رجال الإسلام وفحوله”.
ووصفه أيضاً: “بأنه رجل نشيط لا يسبقه أحد، ولا يباريه على الخيل أحد، مقدام يهزم المئتي فارس وهو وحده”.
ووصفه جون فيلبي “كان الشيخ قاسم يتمتع بسمعة أسطورية، واحتفظ بقدراته الجسدية والذهنية حتى وفاته، وكان الناس غالبا ما يشاهدونه في ساعات العصر راكبا فرسه ويرافقه مجموعة من الفرسان معظمهم من أبنائه وأحفاده”.
وعاصر الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني الصراع الدولي الذي كان على أشده بين الدولة العثمانية (الرجل المريض وهو اللقب الذي أطلقه الأوربيون على الدولة العثمانية في فترة ضعفها) وبريطانيا العظمى الطامعة بوراثة الدولة العثمانية، واستطاع الشيخ قاسم آل ثاني بحكمته وحنكته وبراعته السياسية، أن يقود السفينة في خضم الأمواج العاتية التي كانت تعصف بدول الخليج، وأن يؤسس دولة قوية في اقتصادها، معتزة بدينها وهُوِيتها، متفاعلة مع قضايا أمتها، رغم صغر حجمها ومحدودية مواردها.
ولا أبالغ إذا قلت بأن الشيخ قاسم آل ثاني المؤسس لدولة قطر أوجد بنحكته وبراعته السياسية نوعا من التوازن في الصراع الدولي القائم آنذاك في منطقة الخليج رغم قلة عدد سكان قطر آنذاك والذين لم يتجاوز عددهم سبعة آلف وتسعمائة نسمة تقريبا، وما يقارب ثلاثة آلاف وستمائة من البيوت تخمينا، كما ورد في أحد سالنامات (وهي الكتب السنوية التي لخصت لأهم أحداث الدولة العثمانية الإدارية والعسكرية) ولاية البصرة عام 1890م.
علاقة الشيخ قاسم بن محمد بالسلطان عبد الحميد الثاني:
لقد كان السلطان عبد الحميد الثاني الذي اعتلى العرش سنة 1876م، يعد من أهم دهاة السياسة في التاريخ الحديث، وأدرك بنفاذ بصيرته أهمية الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني في فترة وجيزة، في قدرته على التخلص من الضعوط التي كان يمارسها الإنكليز لإلحاق قطر بركب بريطانيا العظمى، وأيضا في رغبته في تقوية النفوذ العثماني وذلك من خلال احتمائة بمظلة الخلافة ضد أطماع بريطانيا، ولذلك لم يلق السلطان عبد الحميد بالا إلى الشكاوى المستمرة التي قدمها موظفو ولاية البصرة وولاية الأحساء، والتقارير التي كان يرفعها الإنجليز ضد الشيخ قاسم بأنها كلها محض أكاذيب وافتراءات، وحدثت مباحثات طويلة في مجلس شورى الدولة في استانبول سنة 1886م، وظهر منها أن كل المعلومات كانت كاذبة، وقدم تقريرا مفصلا إلى السلطان عبد الحميد، فقام السلطان بعزل نزيه بك الذي قدم تقارير ضد الشيخ قاسم آل ثاني، بل قام بعزل والي البصرة محمد حافظ باشا بسبب سوء تصرفه مع الشيخ قاسم آل ثاني.
ومن المعلوم أن سياسة السلطان عبد الحميد كانت تقوم على التقرب من العرب وكسبهم إلى جانبه وتقدير الوجهاء منهم، ومنحهم بعض المزايا بدلا من اللجوء إلى سياسة الإخضاع المباشر والتي قد لا تكون مضمونة العواقب، وتظهر المراسلات التي كانت بين الشيخ قاسم آل ثاني والسلطان عبد الحميد مدى الاحترام والتقدير الذي كان يكنه كلا منهما للآخر، وأيضا حتى يظهر السلطان عبد الحميد تقديره للشيخ قاسم آل ثاني قام بمنحه مجموعة من الرتب التي لا تمنح إلا لأكابر رجالات الدولة، والتي تدل على معرفة وتقدير السلطان عبد الحميد للشيخ قاسم ومن هذه الرتب:
1- رتبة ” القائممقامية” وتم منحها للشيخ قاسم عام 1871م، وكانت رتبة فخرية، ثم اصبحت رتبة رسمية.
2- رتبة ” رئاسة الباب” وتم منحها 1888م، وهي من الرتب الرفيعة التي منحت لبعض أعيان المنطقة، مثل الشيخ صباح الجابر آل الصباح في الكويت، وكانت هذه الرتبة في البداية خاصة بأصحاب الرتب العالية في القصر السلطاني، ثم صارت تمنح لبعض كبار الشخصيات خارج القصر.
واستمرت العلاقة الطيبة بين أبناء الشيخ قاسم آل ثاني بعد وفاته والباب العالي إلى نهاية الدولة العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك.
د. محمد إقبال فرحات – ترك برس