من المبكّر، بل من الصعب، التكهّن بإمكان نجاح الاتفاق الثلاثي الذي تمخّضت عنه اجتماعات موسكو، التي ضمت وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وإيران وتركيا، أي الدول الأكثر تدخّلاً في الصراع السوري، بالنظر إلى تعقيدات هذه الصراع وتعدد أجنداته، وأيضاً بالنظر إلى تباين مواقف الدول الثلاث في مواضيع مهمة عديدة.
هكذا ربما ينجح هذا الاتفاق، أولاً، لأن الدول الرئيسة المنخرطة عسكرياً في الصراع السوري هي التي تملك النسبة الأعظم من القرار الميداني على الأرض، سيما في شأن فرض وقف القتال والقصف. ثانياً، لأن روسيا ربما باتت تشعر بضرورة وضع استراتيجية خروج من هذا الصراع، لتخفيف الضغط عليها، بخاصة بعد أن رأت أنها فرضت نفسها كلاعب دولي وإقليمي، وكالممسك بالورقة السورية، خصوصاً بعد النجاح الذي حققته في حلب ضد الفصائل المقاتلة. ثالثاً، لأن إيران باتت بمثابة شريك في تقرير مستقبل سورية، وهي لا تريد أن تضيع المكاسب المتحققة من التدخل الروسي، مع علمها انها لم تستطع فرض ما تريد في سورية منذ تدخلها عسكرياً، مع ميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية، قبل تدخل روسيا عسكرياً. رابعاً، نزوع تركيا نحو الحفاظ على المكتسبات التي حققتها من عملية «درع الفرات»، إن في الإقرار بدورها كشريك في التسوية السورية، أو بخصوص الإقرار بحقها في الحؤول دون قيام كردي على حدودها الجنوبية، مع علمنا بحساسية المسألة الكردية في تركيا. خامساً، تنامي الشعور لدى أوساط المعارضة السورية، السياسية والعسكرية والمدنية، بمحدودية القوة، وبعدم القدرة على تحقيق الغلبة على النظام عسكرياً في هذه الظروف الإقليمية والدولية، وفي ظل معارضة في غاية التفكك والتخبط.
المعنى أن ثمة عوامل عدة ترجّح نجاح هذا الاتفاق، ولو مرحلياً، لكن استمراريته، إلى الحد الذي يجعله بمثابة ممهد لتسوية تنهي الصراع السوري، يحتاج إلى مداخلات أخرى، لعل أهمها يكمن، أولاً، في تبنيه من قبل الولايات المتحدة الأميركية، التي تملك وحدها القدرة على الضغط على معظم الأطراف، وعلى الاستثمار السياسي في الاتفاق وتحويله إلى تسوية دائمة. ثانياً، لا يمكن لهذا الاتفاق أن يتحول إلى تسوية إلا إذا أخذ في اعتباره إحداث تغيير في مبنى النظام السوري، أي أن الأمر يتعلق بنوع من مساومة متبادلة، تتأسس على مرحلة انتقالية تضع حداً لنظام الأسد، من دون أن تؤثر في مبنى الدولة، في مقابل إيجاد نظام حكم يقوم على دستور جديد، ونظام حكم يضمن أكثر مشاركة وأوسع تمثيلاً، لأن تسوية مثل هذه، المحكومة بعدم قدرة أي من الطرفين على الحسم ضد الآخر، والمحددة بالمعطيات الدولية والإقليمية التي لا تسمح لأحد بإنهاء الآخر، هي الوحيدة التي يمكن لها أن تفتح نافذة في الاستعصاء الحاصل. ثالثاً، لا يمكن أي اتفاق أن يحقق الاستقرار والرضا من جميع الأطراف من دون إيجاد واقع دولي يسمح بإعادة المهجرين واللاجئين، ويوفر الموارد اللازمة لإعادة إعمار البلد، وهذا أمر ينبغي أن يأخذ في اعتباره رضا الدول الأوروبية الفاعلة، بخاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
طبعاً يفترض كل ذلك أن ثمة عوائق كبيرة قد تودي بهذا الاتفاق، لعل أهمها ينبع من جانبين، أولهما، تعنّت إيران، التي ترى أنها صاحبة القرار في سورية، وليس روسيا، وأن لا بديل عن بقاء الأسد من دون أية حسابات، وأنه ينبغي الاستثمار في انهيار الفصائل المعارضة في حلب إلى النهاية، للتخلص من كل المعارضة. ثانياً، موقف الولايات المتحدة الأميركية، التي انتهجت طوال الفترة الماضية استراتيجية قوامها ديمومة الصراع السوري، حيث تبقى صيغة لا غالب ولا مغلوب، والاستثمار في هذا الصراع بوضع الأطراف المناكفة لها (روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية) في دائرة الاستنزاف في مواجهة بعضها، إضافة إلى ترك الأمور على حالها، لتوفير بيئة آمنة لإسرائيل لعقود من الزمن، أي أن الأمر يتعلق بقناعة صناع القرار الأميركيين لرؤيتهم فيما إذا كانت هذه الاستراتيجية استنفدت، وبات الأمر يفترض التحول نحو استراتيجية أخرى.
ثمة أربع ملاحظات: الأولى، أن الطرفين المعنيين غائبان تماماً عن هذا الاتفاق، وأن مصير سورية بات يتقرر في عواصم أخرى، ووفق أجندات ومصالح الفاعلين الدوليين والإقليميين، وبغض النظر عما يريده الشعب السوري أو معظمه. والثانية، مفادها أن الدول العربية غائبة ومغيبة، إن بصورة جمعية أو فردية، بحكم ضعفها وتشتت مواقفها، وارتهان اراداتها. والثالثة، أن تطورات الأوضاع داخلياً وخارجياً تفيد ربما بالإطاحة بالعملية التفاوضية المتأسسة على بيان جنيف 1 (2012)، وهو ما تم التمهيد له في اجتماعات فيينا قبل عام، وفي قرار مجلس الأمن الدولي 2254 الذي تحدث عن قيام حكومة شراكة، وهو القرار الذي جرى النص عليه في البيان الثلاثي. والملاحظة الرابعة، أن التركيز الدولي والإقليمي بات يتركز اليوم على التخلص من الفصائل المتطرفة، أي «داعش» و «النصرة» وأخواتهما، باعتبار ذلك أساساً لأي توافق سوري، وهو ما أكدت جميع الأطراف على الالتزام به، بما في ذلك تركيا، التي تحاول جاهدة أن يشمل ذلك جماعات «حزب الله» والميلشيات العراقية والأفغانية التي تشتغل كذراع إقليمية لإيران في سورية والعراق ولبنان.
على أية حال ما سيختبر قوة هذا الاتفاق، في الأيام المقبلة، ربما الدعوة التي وجهها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لاستنئناف المفاوضات، بعد أن اختبر هذا التوافق في قرار مجلس الأمن الدولي، مؤخراً، والمتعلق بوقف القتال في حلب وإخراج الفصائل المسلحة من شرق المدينة.
أما بخصوص السوريين فثمة ما يبعث على الاعتقاد بأن وقف القتال والقصف، الذي يستتبعه تأمين المواد التموينية والطبية للمناطق المحاصرة، والحد من التهجير والتشريد، هو مصلحة للسوريين بعد كل الكارثة التي حلت بهم، بسبب النظام وحلفائه، سيما إيران وروسيا، وبسبب عجز او لا مبالاة او تلاعب الدول الفاعلة الأخرى، بانتظار تغير المعادلات التي ترسخ هذا الواقع، إن داخل سورية، أو خارجها.
لا يستنتج من ذلك أن هذه نهاية الثورة، لأنه لا توجد ثورات إلى الأبد، ولأن الثورات لا تسير على خط مستقيم إذ التاريخ يعمل بطريقة معقدة ومتعرجة، ولأن هذه مرحلة من التاريخ السياسي للشعب السوري، لها ما قبلها وسيكون لها ما بعدها.
الحياة – ماجد كيالي