ثمّة مقولة قديمة متجدّدة لا تفقد شبابها ولا تتغيّر، تدور حول منع المغتربين من حقّ إبداء الرأي في القضايا المحليّة، وعن أنّ هؤلاء لا يحقّ لهم أن يفرضوا على «الصامدين» في سورية أيّ خيار سياسي، وفق منطق يُستنتَج منه أنّ من حقّ أهل الداخل «فرض» تلك الخيارات على أولئك الصامدين! وهذا على رغم أنّه من المفترض بتلك الخيارات أن يُنظر إليها بوصفها مجرّد خيارات تُطرح للنقاش وليست قرارات تُتّخذ، حيث لم تقم أيّ من القوى المسيطرة في مختلف مناطق سورية بإجراء انتخابات أو استفتاء حرّ وديموقراطي يشمل السوريّين، حتّى وإن اقتصر على أهل الداخل أنفسهم.
هذه المقولة هي تمهيد لاحتكار مخادع للقضايا التي تهم السوريّين وتجعل لارتباطهم بالوطن معنىً سياسيّاً. هي احتكارٌ لأنّها تعتبر أنّ إبداء الرأي في قضيّة سوريّة ما يستوجب شرط حضوره الجغرافي في سورية. فليس من حق المغترب الوقوف مع الحل السياسي الذي تعارضه بعض القوى، لأنّه لم يخسر أحداً من عائلته وليست لديه رغبة في الانتقام كما لدى أهالي الضحايا، وفي الوقت نفسه، ليس من حق المغترب تأييد استمرار الحرب، التي تراها بعض القوى استنزافاً للوطن، لأنّ المغترب فرّ بنفسه ولم يعد في عداد الضحايا المحتملين لبراميل النظام أو استبداد القوى الدينيّة أو اليساريّة، وليس من حقّه المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، الذين تراهم بعض القوى متآمرين وليسوا سياسيّين، لأنّه لا يعيش في «الداخل» ولا يعرف حجم التآمر على السلطات الناشئة، وليس من حقّه كتابة تضامن مع المضربين عن الطعام، الذين يسبّبون إزعاجاً لبعض القوى الأخرى، طالما أنّه يكتب ذلك أثناء شربه الشاي بعد وجبة دسمة، وليس من حقّه الوقوف مع التدريس بالمناهج الكرديّة، التي لا ترى فيها بعض القوى مستقبلاً عمليّاً للأطفال، طالما أنّه في أوروبا وأطفاله قد أمّنوا مستقبلهم في المدارس الأوروبيّة.
جميع الردود السابقة، وغيرها الكثير، تصدر عن قوى سياسيّة تتّهم الآخر بالاغتراب إذا لم يوافق رأيه رأيها، وتتغاضى عن اغترابه إذا ما وافقها ذلك، لتترك حينها تلك المهمة للقوى المخالفة لها.
الغاية من ذلك هي القول أنّ المشاعر ومعرفة الواقع احتكار لجماعتهم، فهم على الأرض يشعرون بكل شيء ويعرفون كلّ شيء، متناسين أنّ عموميّة المشاعر كانت الركن الأساسي لقيام معظم مناطق سورية تضامناً مع أطفال درعا، وأنّ هذا التضامن لم يكن أبداً بسبب علاقة قرابة مباشرة مع أولئك الأطفال، ومتناسين أيضاً أنّ تبادل المعلومات والمعرفة أصـــبح مشاعاً متاحاً وفوريّاً للجميع سواء كانوا مغتربين أو لا، سوريّين أو لا.
أمّا الخداع في تلك المقولات فيكمن في تنسيب ادّعاء الاحتكار هذا إلى «أهل الداخل»، في شكل يوحي كأنّهم يملكون حقّ الخوض وإبداء الرأي الحرّ في قضاياهم، فيما الواقع عكس ذلك، فهم أحرار في إبداء الرأي بقضايا غيرهم من دون أن يملكوا حق نقد سلطاتهم المحليّة، وبالتالي قضاياهم، وذلك نتيجة لبروباغندا القوى المسيطرة وتسلّطها.
فما تقوم به تلك القوى هو تحويل أنظارهم إلى قضايا خارجيّة لا علاقة لهم بها أو لا يستطيعون التأثير فيها، فيما تترك قضاياهم المحليّة المؤثّرة فيهم في شكل مباشر، والتي يُفترض أن يستطيعوا التأثير فيها أيضاً في صندوق مغلق يُمنع الاقتراب منه ويُفضّل ألا ينتبه الناس إليه أساساً. فيمكن من يعيش تحت سيطرة النظام أن يحاضر طويلاً عن مساوئ طائفيّة المعارضة فيما يتجنّب الخوض في الميليشيات الطائفيّة المساندة لنظامه الذي قتل ما يقارب نصف المليون من السوريّين، ويمكنه انتقاد فساد المعارضة بشدّة وحماسة، لكنها حماسة تنطفئ حال التلميح إلى فساد النظام في قيادته قواعده وجيشه، ويمكن من يعيش تحت سيطرة الإسلاميّين أن يحاضر عن «مؤامرات» الدول الغربيّة على الثورة السوريّة وتحويلها حرباً طائفيّة من دون أن يرى التطييف الذي مارسه تنظيم القاعدة والتنظيمات المشابهة له، ويستطيع اتّهام الكرد بتقسيم سورية بثقة كبيرة لا تتوافر إلا لمن لا يرى الإمارات الإسلاميّة وتقسيمها البلد، ويمكن مؤيّدي حزب الاتّحاد الديموقراطي أن يروا تشريد الحكومة التركيّة أكراد دياربكر ونصيبين عاراً كبيراً على حكومة أردوغان من دون أن يلحظوا نفي الحزب معارضيه إلى كردستان العراق، ويمكنهم أن يروا في الجدار الحدودي الذي تبنيه تركيا سجناً كبيراً من دون أن ينتبهوا الى السجن الصغير في مدينتهم الذي يقبع فيه معتقلون سياسيّون.
وسواء كان هذا العماء نتيجة خوفٍ من السلطات المسيطرة أو نتيجة قناعة بلهاء، فهو في المحصّلة يمثّل تفريغاً لسوريّي الداخل من قضاياهم المحليّة وتوجيهاً لهم الى قضايا خارجيّة ليست في متناول يدهم ليحاربوها كمحاربة دون كيشوت طواحين الهواء، وبهذا يتساوى أهل الداخل والخارج: ففي ظلّ الديكتاتوريّة، كلاهما مغرّب عن قضاياه.
الحياة – داريوس الدرويش