يُصر على إكمال العمل الجراحي للمريض تحت الأرض، يسابق الزمن لإنقاذ حياة المصاب، تتسارع نبضات قلبه، يستنشق غاز الكلور الذي قصفتهم به طائرة مروحية، يرفض أن يستنشق الأكسجين من الكمامة المخصصة للمريض
المخدر، يستشهد الطبيب علي الدرويش بغاز الكلور ويشفى المريض، في حلب، يستلقي الطبيب عبد الحي الإبراهيم، فوق المريضة المخدرة والمفتوحة البطن ليحميها بجسده، من الشظايا والحجارة المتطايرة، ليكمل العمل الجراحي على ضوء الهاتف، بعد ساعات طويلة من البكاء، يودع مدينته، ليكمل رسالته الإنسانية في ريف إدلب، أما عميد الأطباء “حسن الأعرج”فقد حياته وهو يحاول الوصول لمشفى المغارة القريبة من خطوط الاشتباك، لإنقاذ حياة مصاب في غرفة العمليات.
يعيش 600 طبيب في شمال سوريا ليقدموا الخدمات الطبية لأربعة مليون شخص، في ظروف حياتية صعبة، يحاولون البقاء، رغم التحديات والصعوبات الكبيرة، يتوقعون الموت بكل لحظة، بسبب الاستهداف المستمر للمشافي، يعيش ذويهم بحالة قلق دائم عليهم، فقدوا القدرة على ضبط وقتهم والتخطيط لحياتهم، ابتعدوا عن أسرهم وحياتهم الخاصة، فالحالة الحربية الدائمة والمستمرة منذ 8 سنوات جعلهم في حالة طوارئ دائمة، رغم التسهيلات والامتيازات، التي قد يحصلوا عليها إذا غادروا البلاد، واجبهم الانساني وشعورهم بالمسؤولية يحفزهم على البقاء، والتضحية لأجل الجميع لأجل قيم سامية أمنوا بها.
حلا عبد الحي الإبراهيم (34 سنة ناشطة ) أكملت الحديث عن والدها بعد أن تعب، قالت:“رهن أبي حياته ووقته للعمل الطبي, يغيب عنا لأسابيع، يعود في بعض الأحيان ساقاه متورمة، ينام وهو يتناول طعامه لشدة الإرهاق والتعب، يأتي لليلة واحدة للمنزل نجلس معه أقل من ساعتين، دائم القول، الناس بحاجتي، إنقاذ الأرواح أهم من حياتي فلا تطلبوا مني ريح حالي أو ازوركم أو أسأل عنكم”.
” داعش” اعتقلت أخي وائل وهو أب لستة أولاد، اعدموه في مدينة الباب، بتهمة الردة وحمل علم الثورة، بسبب انشغال والدي والدتي المسنة تحملت لشهور مهمة شاقة وخطرة وهي البحث عنه بين المدن وفي سجون “داعش” الكثيرة، قبل أن نتأكد من إعدامه في مدينة الباب شمال حلب، والدي ينسى نفسه إذا تناول طعامه أم لا فهو دائماً جائع متعب.. بعد عام 2012 لم أره ولا مرة بغير لباس الطوارئ، لم يعش يوم واحد كما يعيش البشر”.
التقيت عميد الأطباء حسن الأعرج (42 عام – كفرزيتا – جراحة قلبية)، بتاريخ 10 نيسان 2016 قبل موته بثلاث أيام أجريت لقاء مسجل معه ولم ينشر حتى الأن في المشفى الذي قتل على بابها، قالي لي “عملنا بدِل كل عاداتنا، وأنهى واجباتنا الاجتماعية، كنت أشعر بأني ملك لعملي وواجبي الإنساني وليس لأسرتي أي حق بوقتي، قتل 56 شخص من أقاربي لم استطع المشاركة بواجباتي اتجاههم، ومنهم خالي وابن أختي وأخوة زوجتي، أكثر ما يحرق قلبي كلام بنتي الصغيرة أمنة، بكل اتصال معي تنهي حديثها بجملة بابا داوي كل الجرحى واقتل العصابات وتعال لعنا اشتقنا لك كثير،عائلتي تقبلت فترات غيابي الطويلة عنهم وساعدوني كثيرا للبقاء داخل سوريا، وهم في تركيا، كان عندهم هاجس يومي هو العودة للبلد والبقاء قريبين مني، لكن استحالة الحياة بمنطقة عملي “كفرزيتا” تمنعني من أن أحضرهم، أنا أنام وأعيش أغلب الوقت تحت الأرض في هذه المشفى وقريب من خطوط الاشتباك، نحن وسط المعارك وتحت القصف الدائم عليها من قوات النظام السوري”.
يكمل بعد تنهد طويل ” في نيسان عام 2012 أسعف لنا شاب مصاب بطلق ناري في بطنه من بلدة مورك القريبة، بطريقة سرية أدخل للمشفى خدرناه، فتحنا بطنه، في هذه الأثناء انفجر لغم أرضي بدورية لقوات النظام السوري بالقرب من المشفى، فقام الجيش بتطويق المشفى وإحضار خمسة جرحى منهم للمشفى لتقديم الاسعافات الأولية لهم، قمنا بإخفاءالمصاب وهو مخدر، في غرفة نوم الممرضات، في هذه الأثناء شعرت بأن حياتي انتهت وسوف يتم اكتشاف أمرنا وعندها بالتأكيد سوف تتم تصفية المصاب ونحن داخل المشفى، كنت مرعوب وصور أبنائي لا تفارقني وكيف سيعيشون دوني، مرت ساعة لا يمكن أن أنساها، قدمنا لهم إسعافات أولية وأنا أرتجف والرشاشات والقنابل فوق رؤوسنا، والشتائم تملئ أرجاء المشفى علينا وعلى أهل بلدتي “كفرزيتا”، ومن الأحداث التي لا يمكن نسيانها، في 15 ايار عام 2012 قام النظام بإطلاق النار على متظاهرين بوجود المراقبين العرب في خان شيخون، أسعف للمشفى 30 جريحاَ غالبيتهم في حالة خطرة، حاجز قوات النظام قريب ويمكن أن يفجروا المشفى بمن فيها في حال علموا بالمصابين، كنت بمفردي في المشفى الذي لا يحوي سوى معدات بسيطة جدا، شعرت بالعجز لم أعد أعرف من أين أبدأ، مرت ساعات لم أعد أذكر كيف مرت، مات 5 جرحى منهم وأنا أحاول إنقاذهم، نسيت الخوف من الحاجز نسيت أسرتي في تلك اللحظات العصيبة كان هاجسي الوحيد إنقاذ هؤلاء الشباب”.
نجوى الأعرج (38 عام زوجة الدكتور حسن) قالت: “أنا فخورة بتضحية زوجي وتفانيه، فخورة بموته على باب المشفى وهو يحاول إنقاذ الناس، كان صبوراً ويحمل هموم الناس، مرت علينا شهور لا نراه هو في المشافي الميدانية ونحن نتنقل من بلدة لأخرى مع أهله هربا من القصف، عندما يزورنا يكون متعب لدرجة أنه ينام وهو يلاعب أبناءه، بعد خروجنا لتركيا أصبحنا نتواصل معه عبر “سكايب”، الأولاد يتدافعون على من يحدثه أولا، كان دائما يحثهم على الدراسة والمتابعة، عندما يزورنا في تركيا بعد انتظار طويل لنا له، يمضي غالبية وقته على الكمبيوتر يتابع المشافي ومديرية صحة حماة، حتى أثناء قيادة السيارة، يتكلم مع الكوادر والطواقم الطبية، كان دائم القول لا استطيع ترك سوريا، لأن الطبيب الذي يخرج سوف يبقى مكانه فارغ، فقدناه بـ 13 نيسان 2016 بعد استهداف مدخل المشفى من قبل طائرة حربية روسية، وسمي المشفى فيما بعد باسمه، نعم فقدنا طبيب القلبية، فقدت الزوج الذي طالما انتظرناه، ليعود لنا، ترك لي خمسة أولاد أكبرهم عمره 17 سنة وأعمل جاهدة لأحقق حلمه بأن يكون أبناءنا أطباء، أثمرت جهودي هذا العام ودخل ابني الكبير كلية الطب “
الدكتور محمود المطلق عثر عليه أهله على حافة طريق مغمى عليه وعلى جسده جروح عميقة نازفة، بعد أن دفع فدية مقدارها 150 ألف دولار لعصابة خطف للنشطاء، لم ترحمه تضحياته، أما الدكتور أحمد غندور قال: ” أتوقع الموت في كل لحظة لذلك كنت رافض فكرة الزواج وإنجاب الأطفال حتى لا أترك خلفي أسرة معذبة، سبع سنوات وانا أقيم في المشافي حيث أعمل لا حياة شخصية لي، منذ سنة ونصف فقط تزوجت بعد ان تجاوزت الـ 41 عام”.
والطبيب عبد الحي أنهى كلامه معنا بجملة لا تنسى قال: “أنا بدي موت هون بدي أدفن تحت ركام المشفى الذي أعمل به بدي موت وأنا لابس مريولي الأبيض وحامل السماعات بيدي” .
أكرم الاحمد – المركز الصحفي السوري