احتفل الجيش الصيني، الأحد الماضي، بالذكرى الـ 90 لتأسيسه، بعروض عسكرية كانت أشبه ما يكون باستعراض للقوة، بعثت من خلاله برسائل عدة لشعبها ولمختلف الأوساط الدولية، من بينها أن الصين تقف ندًا قويًا للجميع في منطقة تشهد توترات كبيرة.
العرض قدم للعالم أجمع وعلى رؤوس الأشهاد، صورة واضحة عن مدى التقدم الذي وصلت إليه الصين في مجال التكنولوجيا العسكرية.
الرأي العام الصيني في ظل مثل هذه العروض، يحاط بنوع من الروح القومية، كما أنها (أي العروض) تكون بمثابة فرصة لإعطاء أعداء البلاد جرعة لا بأس بها من الترهيب والتخويف.
الاحتفالات لم تكن قاصرة فقط على مجرد احتفاء بتأسيس الجيش الوطني، وتسليط الضوء على المستوى الذي وصل إليه اليوم، وإظهاره أمام الرأي العام المحلي والدولي، بل كانت في الوقت ذاته دلالة قوية وهامة على مساعي تعزيز قيادة زعيم الحزب الشيوعي الحاكم منذ العام 2013، القائد العام للجيش، رئيس البلاد شي جين بينغ، والاتجاه لتأكيد زعامته في المؤتمر العام للحزب المزمع عقده خريف هذا العام.
ويعد الرئيس الصيني جديرًا بتأكيد زعامته، بعد أن جعل جيش البلاد أكثر احترافية من خلال جهود إصلاحية قام بها طيلة فترة رئاسته، فضلًا عن أنه دلل على كونه المرشح الأوفر حظًا للبروز كمنافس قوي في سباق الدول العظمى، بعد أن طّوع لصالح بلاده كافة الإمكانيات التكنولوجية التي أسفرت عنها المرحلة الراهنة.
– الذاكرة التاريخية والجيش المُطور
تجدر الإشارة أنه قبل بضعة أيام قليلة من هذه الاحتفالات التي نُظمت نهاية الأسبوع الماضي، جرت مناورات عسكرية صينية في بحر الصين الجنوبي، وهذه المناورات لا ينبغي أن نكتفي بتفسير دلالتها على أنها مجرد تدريبات عسكرية بالمفهوم المعروف. بل بدت وكأنها انعكاسًا لمزاعم حماية مناطق السيادة في بحري الصين الجنوبي والشرقي اللذين يشكلان أساس مشكلة الجرف القاري المستمرة بين كافة دول المنطقة تقريبًا.
وفي كلمته التي ألقاها في ذكرى تأسيس الجيش، تطرق الرئيس الصيني، إلى السياقات الأمنية والجيو-استيراتيجية التي تعيشها المنطقة. مشددًا في ذات الوقت أن جيش بلاده لديه القدرة الكاملة على إخضاع أي دولة مناهضة له أيًا كانت. ولا حاجة للتأكيد هنا على أنه كان يقصد بكلامه هذا الدول الغربية.
وإذا كان المقام هنا خاص بتأسيس الجيش الصيني، فسيكون من الأهمية بمكان التطرق هنا إلى الجيش الياباني المنافس التاريخي لنظيره الصيني. فلا شك أن ما قام به اليابانيون من استعراض للنفوذ السياسي والاحتلال بغزوهم أراضي منشوريا نهايات القرن التاسع عشرالميلادي أولًا، ثم في ثلاثنيات القرن العشرين، أمور لم تمحَ بعد من الذاكرة الصينية.
كما يمكننا الحديث هنا أيضًا عن بريطانيا تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس كمنافس قوي أيضًا للصين.
استعراضات القوة التي أجراها الجيش الصيني برًا وبحرًا في ذكرى تأسيسه، كانت تحمل في طياتها تأكيدًا حازمًا من الإدارة الصينية على الدفاع عن مزاعم حقوق السيادة في المنطقة مترامية الأطراف الممتدة من جبال الهملايا وحتى مضيق ملقا الذي يقع جنوب شرقي آسيا بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة الأندونيسية، ويصل بين بحر أمدان في المحيط الهندي من جهة الشمال الغربي، وبين بحر الصين من جهة الجنوب الشرقي.
لكن في النهاية تبقى الولايات المتحدة هي المنافس الحقيقي للصين، وهو ما يمكننا أن نستشفه من خلال خطابات المسؤولين في كلا البلدين، ومن خلال عقد مقارنات بينهما، وتقديم معطيات ملموسة حول آخر ما توصلتا إليه من تقدم في مجال التكنولوجيا العسكرية.
ومن الجدير بالذكر أن ما وصل إليه الجيش الصيني من تطور تكنولوجي عسكري، كان بمثابة امتداد حتمي لعملية التنمية الاقتصادية المستمرة في البلاد منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي.
– التنمية الاقتصادية وعامل التعليم
في ظل سياسة مواربة الباب في التعاون مع الصين، التي انتهجها الرئيس الأمريكي الراحل ، ريتشارد نيسكون، عام 1971، اتخذت الإدارة الصينية قرارها الخاص بالتحرير الاقتصادي، لتصل إلى ما وصلت إليه الآن من قوة اقتصادية كبيرة.
وتمامًا فعلت الصين كما فعلت اليابان حينما أصبحت ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بمساعدات مادية وتكنولوجية وتعليمية قدمها لها الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
ولا شك أن الصين تمكنت من قطع مسافة كبيرة جدا في نموها الاقتصادي حتى باتت في العام 2000 ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم متفوقة على اليابان.
وثمة عدة عوامل ساهمت فيما وصلت إليه الصين حاليًا من تقدم، منها كوادرها المدربة، وحرصها على استيراد التكنولوجيا والمعلومات، إلى جانب انتهاج البلاد سياسات مستقرة كان لها مردود إيجابي على كافة القطاعات والمجالات.
وكان الهدف المنشود في التنمية الصينية، هو تأسيس نظام شيوعي قادر على الوقوف على قدميه. ولا ننسى أن امتلاك الأجهزة والمعدات التكنولوجية اللازمة لمواجهة أية تهديدات أو مخاطر محتملة من الغرب، كان من ضمن الأهداف ذات الأولوية التي وضعهتا الإدارة الصينية نصب عينها عندما خطت أولى خطواتها على مسار التنمية.
ومع هذا لا يمكننا غض الطرف عن الإسهامات التي قدمها الغرب بشكل أو بآخر فيما وصلت إليه الصين حاليًا من مستوى متقدم في مجال المعدات التكنولوجية.
كما أننا في هذا المقام لا يمكننا أن ننسى أو نغفل الدور الكبير الذي لعبه التعليم فيما وصل إليه النموذج الاقتصادي الصيني. فعلى مدار عشرات السنين كان للصين الكلمة العليا في مجال الإدارة التكنولوجية والاقتصادية، ولعل الفضل في ذلك يرجع إلى شبابها الذين تلقوا تعليمهم في الغرب.
وبحسب الأرقام الرسمية لعام 2016، فإن أكثر من 300 ألف طالب صيني شكلوا ما نسبته 31% من إجمالي عدد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في الولايات المتحدة، يتلقون في أرض الحرية تعليمًا حديثًا.
ولا شك أن الإدارة الصينية كانت تعي دائمًا أن التواجد في مجال التعليم الذي يعتبر أحد العناصر المهمة للتطوير والتحديث، أمر سيؤتي ثماره في العديد من المجالات مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والقوات المسلحة.
وبينما احتفلت الصين بكل فخر بالذكرى الـ90 لتأسيس جيشها، فلا شك أن هذا سيكون له انعكاس على دول الجوار بدءًا من الولايات المتحدة التي تسعى دائمًا للإبقاء على زعمها بأنها القوة الأكبر في العالم، وحتى اليابان على الحدود الشرقية للصين، والهند على حدودها الغربية.
الاناضول