فتحت زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق باب التحليلات والتكهنات على اتساعه. وفي حين يعتبر إعلام «دول المحور» هذه الزيارة بمثابة اعتراف «دول التحالف» بانتصار بشار على شعبه، تسعى هذه الأخيرة إلى تقديم الأمر على أنه في إطار تصور للحل يقوم على مبدأ «خطوة مقابل خطوة» على ما تفيدنا «اللا – ورقة» الأردنية.
تقوم فكرة اللا ورقة على أساس أن نظام بشار يمر بضائقة كبيرة، اقتصادية أساساً مع أبعاد سياسية أيضاً، بل بأزمة حكم تتجلى في عدم قدرة النظام على الحكم بصورة عادية، لتجد هذا الأساس مناسباً لإغراء النظام بحوافز «لا يمكنه رفضها» للحصول منه على تنازلات تتمثل في «تغيير سلوكه».
لا يمانع النظام، بالمقابل، في تلقي الحوافز، وبخاصة الإعلامية منها كالتطبيع وفتح قنوات الاتصال مع خصوم الأمس، فهو مما ينفع للزعم بأن «الآخرين» قد أدركوا خطأهم و«عادوا إلى دمشق»!. بكلمات أخرى: ينفع التطبيع في التأكيد على أن النظام كان (وما زال) على حق في الحرب التي شنها على الشعب، وفي أنه الدليل القاطع على انتصاره فيها باعتراف الخصوم قبل الحلفاء.
أما إذا أدى التطبيع المجرد، أي الإعلامي، إلى إجراءات عملية كالحصول على مساعدات اقتصادية أو استثمارات في قطاعات حيوية كالكهرباء أو الوقود أو تنشيط التجارة الخارجية، فهذه مكافآت لا مانع من القبول بها على موافقته على التطبيع، أي قبوله لاعتذار خصوم الأمس. أما أن يتوقع هؤلاء ثمناً مقابل ذلك فهذا أمر مفارق لعقل النظام ومنطقه: متى كانت إعادة الحق إلى نصابه ديناً يتوجب الوفاء به؟ وبخاصة إذا كان في الثمن المطلوب إخلال بـ«السيادة الوطنية» كالمطالبة بطرد الإيرانيين وميليشياتهم، أو إطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين، أو تيسير وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق «الإرهابيين» أو كبرى الكبائر: المضي في الحل السياسي وفقاً لقرارات مجلس الأمن تحت مظلة الأمم المتحدة!
فمن قال إن هناك مشكلة سياسية في سوريا، أصلاً، ليتنطح الآخرون لتقديم حلول؟ الإرهاب وتم الانتصار عليه، الاقتصاد أقلع كما فهمنا من نص كلمة بشار في مستهل ولايته الرابعة، تأهيل البنية التحتية التي خربها الإرهابيون جارية على قدم وساق كما تقول وسائل إعلام النظام، والشعب قال كلمته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بالتصويت بأغلبية ساحقة لبشار الأسد، معبراً بذلك عن تأييده لـ«لقيادته الحكيمة» وتجديد ثقته به. وما مشاركة «وفد وطني» (لا يمثل الحكومة السورية ولا يلزمها بشيء) في اجتماعات اللجنة الدستورية المزعومة في جنيف إلا لإرضاء الحليف الروسي ومساعدته على التظاهر بالبحث عن «حل سياسي» وللرد على مزاعم واتهامات «الوفد الآخر» وإفشال خططه المعادية لسالفقرة السابقة ليست من نوع الفانتازيا الساخرة ولا الافتراء، بل هكذا يفكر النظام ويتصرف ويقول. ولا هو تصوير لبروباغندة النظام، بل لقناعاته الحقيقية.
فإذا حدث بعض التململ في القاعدة الاجتماعية للنظام، كما رأينا في عديد الأمثلة خلال السنتين الماضيتين، بسبب الوضع الكارثي في شروط الحياة، وساورت النظام ظلال شك في صحة خياراته، جاء التطبيع الاعتذاري لبعض الدول ليبدد تلك الظلال تماماً، ويعيد تثبيت القناعات الراسخة حول صحة و«حكمة» تلك الخيارات. حتى العم رفعت أدرك خطأه وعاد إلى جادة الصواب بملء إرادته!
لا بد لنا هنا من تأويل الفرقعة التي أطلقها جورج قرداحي ضد السعودية ودول الخليج، في الإطار نفسه. فما قاله الوزير اللبناني المعروف بولائه لنظام الأسد يعبر عن «رد في المكان والزمان المناسبين» على مبادرات التطبيع التي يراد لها أن تشكل «حوافز» للنظام من أجل «تغيير سلوكه» وفقاً للتعبير الأمريكي. يقول النظام، على لسان قرداحي، إن على مقدمي الحوافز أن يغيروا سلوكهم تجاهه، وليس العكس. النظام يقبل الاعتذار وتغيير السلوك من الآخرين، مقابل «العفو عما مضى». ربما تساعد كنية الوزير اللبناني أيضاً في التأكيد على أنه إنما ينطق بلسان آل الأسد المتحدرين من قرية القرداحة، بصرف النظر عما إذا كانت قرداحة القرداحي مطابقة جغرافياً أم لا لقرداحة الأسد.
سوابق النظام تبرر هذه القراءة. ففي العام 2009 جاء العاهل السعودي إلى دمشق، بعد قطيعة استمرت سنوات بسبب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، ومن هناك انتقلا معا إلى بيروت. كانت الزيارة حافزاً لبشار الأسد، من وجهة نظر السعودية، لتيسير أمر تشكيل الحكومة اللبنانية. وكان رد الأسد وحزب الله، ومن ورائهما إيران، هو تعطيل البرلمان اللبناني.
أما الدول الغربية فمشكلتها مع نظام الأسد تكاد تتلخص بموضوع تدفق اللاجئين. حتى رغبة الأمريكيين في الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، يبدو أنها تراجعت، وفقاً لما سربته صحيفة «الشرق الأوسط» أخيراً. فإذا كانت تلك الدول تسعى إلى تنازلات من النظام مقابل الحوافز، فهدفها هو أن يوفر النظام، من خلال «تغيير سلوكه» تجاه محكوميه، ولو بشكل طفيف، لخلق بيئة مناسبة لعودة اللاجئين إلى سوريا. ولكن من قال إن النظام لا يتعامل مع موضوع اللاجئين كسلاح في وجه الدول المضيفة لهم لترضخ هي لشروطه؟ أي لكي يقبل اعتذارها ويطبّع العلاقات معها، كما يفعل اليوم مع الإمارات والأردن. منظمة العفو الدولية وثقت، الشهر الماضي، كيف تستقبل أجهزة مخابرات النظام العائدين إلى سوريا، من تعذيب واغتصاب وقتل تحت التعذيب.
ليس هذا التعامل مجرد انتقام ممن غادر البلاد في سنوات الثورة والحرب، بل أيضاً رسالة إلى دول الغرب مفادها أنه لا يريد عودة اللاجئين، وأن أقصى ما يمكن أن تتمناه تلك الدول هو أن يخفف من تدفق لاجئين جدد إذا قدمت له حوافز مناسبة، لا أن يوقفه تماماً.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع
نقلا عن: القدس العربي