لا يمكننا، نحن العرب، أن نشارك عالم السياسة في الغرب ذهوله أمام حقبة “ما بعد الحقيقة”. دخل المصطلح قاموس أوكسفورد رسمياً، بعد أن صوّتت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي بناءً على معلومةٍ مزيفة بالكامل، وانتخبت أميركا دونالد ترامب بناءً على حفنةٍ من الغضب والأكاذيب. “ما بعد الحقيقة” تعني أن يصبح ما يرغب الناس في تصديقه بخصوص موضوعٍ ما أهمّ مما يعرفونه عنه. لا يمكننا، نحن العرب، أن نشعر بالذهول أمام هذه الفكرة، لأننا طالما عشنا في واقع مختلف: حيث القوة هي الأهم في عالم السياسة، لا الحقائق، وحيث لا وزن لما يصدّقه أو يعرفه الناس، فالمهم هو ما يريده الحاكم.
وعندما حاول العرب الثورة على منطق القوة وإدخال العقلانية إلى المجال السياسي، لاذ الحاكم العربي بمزيجٍ مذهلٍ من العنف الوحشي، واستخدام أدوات العقلانية السياسية ضد العقلانية ذاتها. استخدم بشار الأسد في سورية الانتخابات التي تجري بين لاجئين ومهجّرين، وتحت الحصار والقصف، ليعلن فوزه عام 2014 بنسبة 88%، ويقدّم حقيقته الخاصة التي يمزج فيها بين الاختيار الشعبي الحرّ والبراميل المتفجرة، والرئيس ذو الشعبية الجارفة يواصل ممارسة عملية تجريف ديمغرافي وتهجير في كل البلاد التي يقسمها إلى “سورية المفيدة” ضدّ “سورية الضارّة”.
بعد عامين، في ديسمبر/ كانون الأول 2016، خلال المراحل الأخيرة من دكّ حلب، في مؤتمر صحافي تعقده صحافية كندية تصف نفسها بـ”الصحافية المستقلة” التي تقدّم تغطية من أرض سورية، و”المتخصصة في التحقق من الوقائع” و”تحدّي قصص الناتو والمؤسسات الإعلامية الكبرى التي تُضلل الأفراد في أوروبا وأميركا”، ستقول هذه الصحافية في المؤتمر إنها ذهبت إلى سورية، وتحدثت مع السوريين، و”تعلم” أنهم يريدون الأسد، ودليلها الدامغ فوز الأسد في انتخابات 2014. في العالم الأسدي، تتحول أنشطة “تدقيق الحقائق” و”تحدّي عالم ما بعد الحقيقة” إلى جزء آخر من بروباغاندا الديكتاتور.
هذه الصحافية، إيفا بارتليت، هي، في النهاية، وعلى مستوى التعريف، ليست أكثر من نسخة متنكّرة من إعلام فلاديمير بوتين. وعلى مستوى عملي، هي جزء من منظومة إعلامية دولية، تحاول أن تُقدّم هامشيتها على سبيل “التزكية”، فهم “مُهمّشون” لأنهم أحرار، وهم يدافعون عن الأسد، لأنهم يقولون الحقيقة ويتحدّون مؤامرة حلف الناتو من أجل تغيير النظام، والصحافة الدولية مغمورة بركام أخبار جرائم الأسد، لا لأن هذه هي الحقيقة، لكن، لأن هذا هو إعلام “الناتو” الـمُضلل. تشمل هذه المنظومة أشخاصاً مثل بارتليت التي تقول، في مكانٍ آخر، “أنا أنشر في (روسيا اليوم) لأن كلاً منا يقول الحقيقة”، وتشارك في “فيسبوك” صورها، وهي تقوم على الأرض بعملها الصحافي “النزيه والمستقل”، تحت حماية أصدقائها من جيش الأسد. ومثل فانيسا بيلي التي تقول “سلمية الثورة السورية مجرد كذبة.
الثورة كانت مسلحة منذ اليوم الأول في درعا”، و”صورة عمران من حلب لا يمكن الوثوق بها، لأن من التقطها إرهابي من حركة نور الدين زنكي”، وكل واحدة من الاثنتين تُحيل على الأخرى كمصدر موثوق، وكلتاهما تنشران في مواقع تدّعي أنها غير ربحية، مثل global research، بالإضافة إلى قناة “روسيا اليوم” وباقي المواقع التي تحتضن “يسار الأسد”. والمهم في هذا التيار الإعلامي ليس أنه مُكرّس كليّة لنشر بروباغاندا بوتين والأسد، بل المقدمات والطرق التي يوظّفونها لتقديم هذه البروباغاندا. تبدأ بارتليت بالاحتجاج على تضليل الإعلام العالمي بالقول “لا أحد يعرف ماذا يحدث في حلب.
لا أحد”، لكنها خلال دقائق تنتقل إلى شيء مختلف تماماً وهو أنها وحدها تعرف الحقيقة، لأنها كانت هناك، والحقيقة أن “الخوذات البيضاء” يقتلون السوريين، وجيش الأسد يموت دفاعاً عنهم. وتحتجّ على انعدام وجود أي منظماتٍ عاملة على الأرض في شرقي حلب، لكنها، في مكان آخر، تقول إن جميع المنظمات، HRW، منظمة العفو الدولية، مجرد أذرع لمشروع “الناتو” تدّعي العمل من أجل حقوق الإنسان، لكنها هي، بارتليت، هي الناشطة الحقوقية “الحقيقية”. وترفع بطاقة “أنا كنت على الأرض في سورية.
أنا عائدة للتو من هناك” في وجه أي انتقاد، لكنها تتهم جميع المواطنين السوريين الذين سجلوا وقائع حصار حلب من الداخل، بأنهم كَذَبة إرهابيون. فكلّ الصور كاذبة، لأن إرهابيين التقطوها. وكل المنظمات كاذبة، لأن “الناتو” يمولها. وكل قتلى تحالف الأسد- إيران- روسيا كانوا حفنة إرهابيين، لا يستحقون إلا الموت. هؤلاء الذين يبدأون حديثهم بـ”لا أحد يعرف الحقيقة في سورية” هم من يريدون أن ينتهوا إلى تقديم بروباغندا “الأسد ضد الإرهاب” بوصفها “الحقيقة”.
وهؤلاء الذين يرغبون في نسف ما تبقى من منظماتٍ دوليةٍ حقوقيةٍ وطبية، هم من يرغبون في عالمٍ تتآكل فيه فكرة حقوق الإنسان، لصالح إنتاج حقوقيين جدد، يعقدون صداقاتٍ مع جيش الأسد، ويعملون لصالح بوتين. وهؤلاء الذين يُبدون غاية التّلهّف إلى الحقيقة، فيدققون في تفاصيل “صورة عمران”، لا يهتمّون على الإطلاق بالحقيقة التي تكشفها “ملفات قيصر”، أو شهادات سجناء صيدنايا. ومن يحرصون على التوثيق التاريخي لتسجيلات مشايخ السُّنة التي كانت تشجع على الجهاد في سورية أول أعوام الثورة، من أجل أن ينسبوا الثورة إليهم، لا يبالون بتاريخ “البعث” في سورية في 50 عاماً، ولا سيرة وتاريخ الاستبداد العربي الذي أفضى إلى انفجارٍ عام.
ترويج حالة من سيولة الحقيقة في هذه اللحظة التاريخية هو مجرد مقدّمة لفرض نسخة محدّدة من البروباغاندا، يلعب فيها بوتين دور الـمُحرّر، والأسد دور حامي السيادة الوطنية، وتصبح زيارة قاسم سليماني حلب انتصاراً عربياً، وضمن هذا الشرط المقلوب، لا يعني التصدي لــ”ما بعد الحقيقة” إلا مزيداً من الأكاذيب. من العبث مناقشة التفاصيل مع من يوجد الشيطان في منطلقاته، ومن العبث البرهنة على الحقائق لإقناع من يكمن الخلل في ضميره. يتصارع صحافيو بوتين و”يسار الأسد” مع صحافيّي “الناتو” حول الواقع العربي، لكن كل ما يُنشر في الإعلام العالمي بات أقلّ أهميةً مما نعرفه عن أنفسنا نحن العرب، هذه حقيقة.
تستطيع البروباغاندا الروسية أن تداعب خيال الجندي الروسي بصورة فتاة سورية تخاطبه قائلة “أشعر بالأمان، عندما تكون أرضي تحت سيطرتك”، لكن ما حدث أن السفير الروسي في أنقرة اغتيل رفضاً لدور بلاده في المنطقة، هذه حقيقة.
نستطيع أن نتجادل حتى الفجر حول مَن فعل ماذا في سورية، لكننا نعلم جيداً أن أي حكومة عربية صارت قادرة، منذ اليوم، على سحق شعبها من دون أن يتدخل النظام الدولي لمنعها أو عقابها، إذا ما حافظت على علاقة جيدة مع روسيا، وأجادت التلاعب بالجهاديين، هذه حقيقة. ويمكن الحديث مطولاً عمّا دفع الأسد إلى الارتماء في حضن طهران، لكن المنطقة من إيران وحتى حدود سورية مع تركيا أصبحت اليوم منطقة نفوذٍ للحرس الثوري الإيراني، هذه حقيقة. ويمكن الجدال حول مَن حملت الباصات الخضراء مِن حلب، ولماذا توقفت، ولماذا تحركت، لكن إعلام حزب الله في لبنان أصبح قادراً اليوم علناً على تهديد خصومه من الطوائف الأخرى بالتهجير في “الباصات الخضراء”، هذه حقيقة. هذه لحظة تاريخية، الانتصار فيها تاريخي، والهزيمة فيها تاريخية، وأصحاب المواقف السافلة فيها “سَفَلَة تاريخيون”، وهذه حقيقة أخيرة.
العربي الجديد – إيمان القويفلي