عبثاً يحاول المسلمون في الولايات المتحدة أن يتبرأوا من جرائم وأعمال إرهابية، يرتكبها أفراد من بينهم. فهم مهما دانوا تلك الأفعال، يبقوا متهمين في أعين كثيرين، وحتى الإدانات، مهما كانت قوية، فإنها في اعتبار كثيرين غير كافية. ومن ثمّ يجد المسلمون الأميركيون أنفسهم محل اتهامٍ بالاشتراك بذنب هم ليسوا طرفا فيه، أو أنهم متهمون بالتكافل في الجريمة، وبالتالي تصبح مصيبتهم مصيبتين. فهم ضحايا ومتهمون في الوقت نفسه.
قد يقول بعضهم إن هذا طبيعي، فالأقليات، دوماً، تبقى محل تمييز في النظرة والحكم والمعاملة، ونحن، العرب والمسلمون، لسنا أفضل حالاً في بلادنا، والأمثلة هنا كثيرة، فلو قام عربي أو مسلم من جنسية معينة بجريمة في بلد عربي أو مسلم آخر، فإن نظرات الشك والاتهام تنسحب من مجتمع الأغلبية على كل أفراد جنسية مرتكب الجرم. هذا صحيح واقعاً، غير أنه ليس صحيحاً خُلُقِياً ولا قيمياً، والأهم أن التعميم في إطلاق الأحكام وتعميم الاتهامات في الجريمة لا يقدم إجاباتٍ، ولا يجترح حلولاً لظاهرةٍ ما.
عندما يكون مرتكب الجريمة في الولايات المتحدة أميركيا أبيض مسيحياً، وبالدرجة الثانية من أي عرقٍ ودين آخر، ما دام أنه ليس مسلماً، فإن الإعلام يبدأ، أولا، في البحث في تاريخ مرتكب الجريمة ووضعه العقلي واستقراره النفسي. فالافتراض، هنا، يكون أن مرتكب الجريمة قد يكون يعاني من اضطرابات نفسية أو عقلية. ولذلك، يكون خبراء كثيرون يتم استضافتهم خبراء نفسيين واجتماعيين. أما عندما يكون مرتكب الجريمة مسلماً، فإن الافتراض المباشر أنه إرهابي، ومن ثمَّ يكون أغلب الخبراء الذين تتم استضافتهم على شاشات التلفزة “خبراء إرهاب”. وهكذا، فإن الحقيقة قد تضيع، ويصبح التركيز على دين المجرم، وإن بشكل غير مباشر، لا على فعلته، وخلفياتها، وينتهي الحال بكل مسلم أن يكون بالضرورة “مجرماً” أو “متواطئاً” في أعين شرائح كثيرة من السياسيين والأمنيين والإعلاميين، بل وحتى الناس العاديين، ويكون المسلمون، بكليتهم، محل تهديد وانتقام.
عاد المنطق السابق وأطل برأسه، كما كل مرة، مع ارتكاب عمر متين جريمته في نادٍ للمثليين في مدينة أورلاندو في ولاية فلوريدا الأحد الماضي. هو ابن التسعة والعشرين عاماً، أميركي من أصول أفغانية، من مواليد نيويورك، وكان يعمل في (جي 4 إس) الأمنية العالمية، بمعنى أنه ابن أميركا ونتاجها، وليس ابن أفغانستان، كما أوضح، محقاً، الرئيس الأفغاني السابق، حامد كرزاي. مباشرةً، تعامل الإعلام والسياسيون مع الجريمة من منطلق أنها عمل “إرهابي”، تمّ لأسباب أيديولوجية وسياسية. وللأسف، انطلقت الأجهزة الأمنية، كما العادة، أيضاً، في تحقيقاتها من الأرضية نفسها. ومع اتفاقنا أن الجريمة عمل إرهابي، إلا أنها ليست بالضرورة مدفوعة بأيديولوجيا متطرفة.
أكتب هذه السطور، وأنا أتابع التغطية الإعلامية الأميركية للجريمة. من كانوا يعرفون متين
“عندما يكون مرتكب الجريمة مسلماً فإن الافتراض المباشر أنه إرهابي” يقولون إنه كان غير متزن وغير مستقر، عصبياً، وعنيفاً. هذا ما قالته زوجته السابقة، وأيضا، هذا ما قاله أحد زملائه في العمل. أما الأهم، فيما يتكشف من معلومات، هو أن متين كان، على ما يبدو، ذا ميول جنسية مثلية منذ صباه، بل قد يكون أحد مرتادي النادي الذي ارتكب فيه جريمته. وحسب طليقته، فإن أهله كانوا يعرفون ذلك عنه، وأن والده وصفه يوما بـ”اللوطي”. ويقول أحد زملائه (غير مسلم) في النادي الرياضي الذي كانوا يذهبون إليه إن كل زملائهم المشتركين في النادي كانوا مقتنعين إن عمر مثليّ جنسياً، بسبب محاولاته المبالغ فيها إثبات رجولته في تعليقاته الساخرة والتحقيرية عن النساء. وأمام هذا الكمِّ من المعلومات التي يعضد بعضها بعضاً، بدأت التغطية الإعلامية تميل إلى أن الرجل، لربما، كان يعيش حياتين منفصلتين، من ناحية، حياة زوجية عادية مع زوجته الثانية التي عنده منها طفل، وحياة مضطربة بسبب ميوله الجنسية المثلية، والتي عبّرت عن نفسها بمحاولته التواصل مع مثليين عبر تطبيقات ومواقع خاصة بهم، وربما كذلك عبر الذهاب إلى النادي الذي ارتكب فيه جريمته.
الآن، هذا لا ينفي أن الانفصام في شخصية متين من جرّاء ميوله الجنسية المثلية، وما بين شعوره بالذنب دينياً، كمسلم، على أساس أن الإسلام يحرّم ذلك قطعيا، ورجولياً، كشخص متأثر، بدرجة أو بأخرى، بثقافة الشرق، قد يكون أدى إلى انفجاره وارتكابه جريمةً قد يكون رأى فيها “تطهيراً” لنفسه من الذنب. وبالتالي، يصبح ما نسب إليه من تصريح لمندوب الأمن على الهاتف، في أثناء ارتكابه جريمته، بأنه يعطي البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مجرد مبالغة في محاولة “التَطَهُّرِ”، كما قد يكون رآها. ما يعضد هذا التحليل أن مكتب التحقيقات الفدرالي (إف. بي. آي) أقرّ أن عناصره قابلوا متين مرتين في السنوات الماضية، الأولى عام 2013، عندما جاءتهم شكوى من زملاء له بالعمل من أنه يزعم أن لعائلته علاقات بتنظيمات “داعش”، وفرع تنظيم القاعدة في سورية “جبهة النصرة”، وحزب الله الشيعي اللبناني. حينها خلصت “إف. بي. آي” إلى أنه لا دليل على مزاعم متين، مشيرين إلى تناقضات منطق تفكيره، إذ تحارب تلك التنظيمات بعضها بعضا. وكانت المرة الثانية عام 2014، عندما نفّذ صديق له، هو الأميركي من أصل فلسطيني، محمد أبو صالحة، عملية تفجيرية ضد موقع لجنود النظام السوري في إدلب. ومرة أخرى، خلص المكتب إلى أنه لا أدلة تشير إلى ارتباط متين بتلك العملية، ولا بـ”الفكر الجهادي”، ورفع اسمه من قوائم المشتبه بهم بالإرهاب، وهو ما سمح له بشراء الأسلحة الهجومية التي ارتكب فيها جريمته، من دون إثارة أي شبهات. كل ما سبق، بالإضافة إلى معلوماتٍ تشير إلى اضطرابات الرجل نفسياً وجنسياً، تؤكد أننا أمام شخصيةٍ مضطربةٍ وغير متزنة، ولا مستقرة، خصوصاً أن أجهزة الأمن الأميركية شدّدت على أنها لا تعتقد أن هذه العملية تمت بتوجيهٍ من “داعش”، ولا يوجد لديها أدنى دليل أن متين تواصل مع التنظيم.
لكن، وعلى الرغم من كل المعطيات السابقة التي تشكّك في منطق القائلين إن هذه عملية إرهابية ارتكبت لأسباب أيديولوجية، ما زال هذا “التحليل” هو الطاغي في التغطية الإعلامية لها، أما الضحية هنا فهم المسلمون الأميركيون.
مباشرةً بعد الجريمة، تقلص الفارق بين المرشحة الرئاسية الديمقراطية، هيلاري كلينتون، ومنافسها الجمهوري، دونالد ترامب، حيث أظهرت نتائج استطلاع أجري من الجمعة (10 /6) وحتى الثلاثاء (14 /6) تقدّم كلينتون على ترامب بفارق 11.6 نقطة مقارنة بالفارق السابق البالغ 13 نقطة في الأيام الخمسة التي انتهت يوم السبت (11 /6). وكان متين ارتكب جريمته يوم الأحد (12 /6). ولا شك في أن أسباب تقلص الفارق تعود، من ناحية، إلى خطاب ترامب المتشدّد ضد المسلمين، وتعهده بفرض حظر مؤقت على زيارتهم الولايات المتحدة، ودعوته إلى مراقبة المساجد في سياق الحرب على ما يسميه “إرهاب الإسلام المتشدّد”.
أدّت جريمة متين هذه إلى تبديد كل الأجواء الإيجابية التي سادت في أثناء وفاة الملاكم الشهير المسلم، محمد علي. إذ إن جنازته، قبل يومين من جريمة متين، كانت فرصة لتذكير الأميركيين أن المسلمين جزء من تاريخ هذه البلاد ونسيجها الاجتماعي، والتي كان علي أحد تعبيراتها الأجمل والأبلغ. حينها، بدا أن عنصرية ترامب وأمثاله تواجه مأزقاً، قبل أن يأتي أحمقٌ من بيننا ليلقي إليها بطوق نجاةٍ، ونكون نحن المسلمون شركاء جماعيين في جريمة ندينها ولا نقرّها.
العربي الجديد_أسامة أبو ارشيد