في خضم التحليلات الكثيرة لفوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية، تبرز دلالتان أساسيتان لهذا الفوز وما سبقه من أحداث في أوروبا، أولهما أن الدولة العميقة أو ما يعرف “بالمؤسسة” في الغرب باتت غير قادرة على التحكم التام بقواعد “اللعبة” في الديمقراطية الليبرالية التي تحكم معظم دول العالم الغربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وثانيهما تقدم اليمين الانعزالي على حساب التيارات الوسطية التي تناوبت على الحكم في هذه الدول، بين يمين الوسط ويسار الوسط منذ تشكل النظام العالمي “الجديد”.
“المؤسسة” تفقد السيطرة على قواعد “اللعبة”
بدا واضحا من تفاعلات الأسابيع الأخيرة التي سبقت يوم الانتخابات أن “المؤسسة” والنخب السياسية والإعلامية الأمريكية باتت تخشى بشكل جدي من فوز ترامب، بعد أن تعامل الكثيرون لشهور طويلة مع ظاهرته بالسخرية والاستهانة. قبيل الانتخابات تصاعدت الحملة التي بدا أنها “موجهة” ضد ترامب، من خلال الكشف عن فيديوهات وتصريحات “سخيفة” للرجل، تظهر شخصيته المتسرعة وغير المتزنة، واستعداده لقول وفعل أي شيء، دون حساب لعواقبه، وإساءته لفئات واسعة من الناس.
وبالتوازي مع نشر هذه التصريحات المسيئة لترامب، التي تكشف شخصيته الحقيقية على أي حال، بدأت كبريات الصحف والمؤسسات الأمريكية بالخروج عن المألوف بإعلانها صراحة عن تأييد كلينتون، أو على الأقل بالتحذير من خطورة انتخاب ترامب. فعلت ذلك حوالي 16 صحيفة كبرى في الولايات المتحدة، ومن أهمها نيويورك تايمز، واشنطن بوست، وول ستريت جورنال، إضافة للصحيفة الأوسع انتشارا “يو أس إيه توداي”. وانضمت بعض الصحف الإنجليزية، مثل الفايننشال تايمز والغارديان، لمثيلاتها الأمريكية، ودعت لانتخاب كلينتون ومنع وصول ترامب للبيت الأبيض.
ولم يتوقف الأمر على الإعلام، فقد انضم زعماء في الحزب الجمهوري “للحملة” ونأوا بأنفسهم عن دونالد ترامب؛ بسبب مواقفه المسيئة للمسلمين، والمكسيكيين، والإسبان الأمريكيين، وللمرأة، ولغيرهم من فئات الشعب الأمريكي. كما أعلن زعماء أوروبيون صراحة عن تخوفهم من إمكانية فوز ترامب، في سابقة غير معهودة في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
وبالرغم من كل تلك المحاولات لمنع ترامب من الفوز، إلا أنه استطاع الحصول على أصوات الناخبين التي أهلته للوصول للبيت الأبيض، ما يعني عمليا فشل “المؤسسة” وأذرعها الإعلامية والسياسية من التحكم بلعبة الانتخابات الأمريكية.
ولم يكن فوز ترامب هو الدلالة الوحيدة على إخفاق “المؤسسة” بالتحكم التام باللعبة في الغرب، فقد سبق ذلك فشلها في منع تصويت البريطانيين بالأغلبية على الخروج من الاتحاد الأوروبي أو ما يعرف بـ”البريكسيت” وهو التصويت الذي دعمه ترامب و “أقرب السياسيين البريطانيين له” نايجيل فاراج زعيم حزب الاستقلال البريطاني اليميني، الذي يمكن اعتباره أكبر الفائزين من نجاح الاستفتاء على “البريكسيت”. كما فشلت “المؤسسة” أيضا في بريطانيا بإسقاط “جيرمي كوربن” من زعامة حزب العمال البريطاني، على الرغم من الحملة الإعلامية والسياسية الشديدة عليه والتي توجت برفع 176 نائبا من نواب حزبه الثقة عنه، ولكنه عاد لقيادة الحزب بعد فوزه بالانتخابات المبكرة وبنسبة تصويت أكبر مما حصل عليه أول مرة في انتخابات عام 2015.
هذا الفشل في التحكم التام بقواعد اللعبة قد يؤدي إلى لجوء “المؤسسة” إلى أساليب أكثر خشونة، خصوصا إذا فشلت في “ترويض” الرئيس القادم من خارج “النخبة” السياسية التقليدية عبر مساعديه.
ولعل من المفيد في هذا الإطار الإشارة إلى ما نشرته صحيفة “واشنطن بوست” حول توقع الأكاديمي الأمريكي آلان ليتشمان إزاحة ترامب من منصبه عبر الكونغرس الجمهوري، بكل ما يعنيه ذلك من آثار على مصداقية العملية الديمقراطية.
ومن المفيد أيضا متابعة النقاش في بريطانيا حول إمكانية تصويت البرلمان على مخالفة نتيجة الاستفتاء بخصوص الخروج من الاتحاد الأوربي ومطالبة الكثيرين بإعادة الاستفتاء مرة أخرى، وهو ما يؤشر على حالة القلق التي تسود “النخبة” السياسية في الغرب من “تمرد” الاختيارات الشعبوية على قواعد اللعبة الديمقراطية التي طالما وصفها المنتقدون لها بأنها “محكومة” النتائج إلى حد كبير.
هل هو زمن التحولات الكبرى في الغرب؟
تشكل النظام العالمي الجديد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عمليا كنتيجة لهزيمة “اليمين” والأحزاب “القومية” النازية والفاشية، ومنذ ذلك الوقت حكمت الغرب أحزاب تنتمي غالبيتها للوسط، سواء كانت “يمين وسط” أو “يسار وسط”. وعدا عن استثناءات بسيطة، كانت النخب الحاكمة تنتمي لفكر عالمي يؤمن بدور الغرب في صناعة نموذجه “الديمقراطي الليبرالي” والتبشير به في العالم.
ظلت الأحزاب اليمينية المتطرفة ذات التوجهات “الانعزالية” محدودة التأثير، وعلى هامش العملية السياسية، وعندما استطاع حزب يميني يحمل هذه التوجهات الوصول للحكم في النمسا عام 2000؛ اضطر زعيمه “يورج هايدر” للتنحي نتيجة الضغوط الغربية الشديدة، بسبب دفاعه عن النازية وأفكاره اليمينية المتطرفة الخارجة عن النمط “الوسطي” الذي يحكم الغرب منذ نهاية الحرب الثانية.
وفي العقدين الماضيين تصاعدت القوى اليمينية بشكل خجول في دول أوروبية غير رئيسية مثل النمسا وهولندا، ولكن الغرب يشهد الآن نصرا لهذه القوى القومية “الانعزالية” في الدول الغربية الكبرى، قائدة النموذج الديمقراطي الليبرالي: أمريكا من خلال فوز ترامب، بريطانيا عبر “البريكسيت” وتنامي قوة حزب الاستقلال، فرنسا من خلال “ماري لوبان” الصاعدة بقوة في السياسة الفرنسية، وألمانيا من خلال تصاعد اليمين المستفيد من حالة الاحتجاج على سياسة ميركل تجاه موضوع الهجرة.
إنها المرة الأولى التي يفوز فيها رجل رفع شعار “أمريكا أولا” في رئاسة الدولة الكبرى في العالم، وهي المرة الأولى التي تفشل فيها أحزاب التيار الرئيسي بيمينه ويساره في الفوز باستفتاء مصيري في بريطانيا، في الوقت التي تتقدم فيها مرشحة اليمين الفرنسي المتطرف “ماري لوبان” للمركز الثاني في استطلاعات الرأي عن انتخابات الرئاسة التي ستعقد في العام المقبل بعد أن حققت نتائج غير مسبوقة في الانتخابات المحلية وفي البرلمان الفرنسي والأوروبي.
التقدم الكبير الذي يحققه التيار والشخصيات القومية الانعزالية في الغرب دق ناقوس الخطر عند النخبة التقليدية الحاكمة في الغرب، وهو ما يفسر التصريحات غير التقليدية الصادرة من فرنسا وألمانيا تعليقا على فوز ترامب، بما يتجاوز الأعراف الدبلوماسية بين هذين البلدين وأمريكا، وهو ما يفسر أيضا ردة الفعل العنيفة في الإعلام الغربي الرئيسي تجاه نتيجة الانتخابات الأمريكية.
ستتحرك النخب التقليدية بعد أن استشعرت الخطر الذي يمثله فوز ترامب وتصاعد اليمين القومي والتيارات الانعزالية بلا شك، وستحاول تحجيم المخاطر الناجمة عن ذلك، ومنع تقدم تلك التيارات بشكل أكبر بما يهدد “النموذج” القائم منذ الحرب العالمية الثانية، وقد تنجح “النخبة” في ذلك، وإن اضطرت لخيارات غير تقليدية هذه المرة، ولكنها إذا فشلت في إعاقة تقدم اليمين الجارف، فإن هذا يعني أننا في زمن تحولات كبرى، قد تعني تغيير المعادلات التي تحكم العالم الجديد منذ عقود!
فراس أبو هلال_عربي 21