قالت مجلة فورين بوليسي إن أميركا لم تعد تعرف الآن من هم أصدقاؤها ومن هم أعداؤها في منطقة الشرق الأوسط، على نحو ما ظلت تعرفهم طيلة نصف القرن الفائت عندما كانت تدرك بوضوح ما يسعى هؤلاء لتحقيقه.
واليوم فإن ثمة غموضا أكبر يكتنف مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، مما يجعل من المنطقي التساؤل عن طبيعة الدعم الذي تقدمه لشركائها التقليديين، كما أنه لا يوجد إجماع حول كيفية التعامل مع التشكيلة “المربكة” من الأطراف والقوى المتناحرة حاليا في المنطقة، كما تقول المجلة.
ثمة شيء واحد جلي -بنظر المجلة- ويتمثل ذلك في أن السياسات التي دأبت أميركا على اتباعها في الشرق الأوسط منذ أربعينيات القرن الماضي لم تعد كافية بأي حال. ذلك لأن واشنطن ما تزال تظن على ما يبدو أن الشرق الأوسط يُمكن أن يُدار بتملق حكامه المستبدين لكسب رضاهم، وبدعم إسرائيل دعما كاملا، والطَّرْق على فكرة أن المنطقة بحاجة لقيادة أميركية، وعندما تفشل كل الاحتمالات الأخرى “فعندئذ دع العقد ينفرط”.
غير أن هذا المنطق -تضيف المجلة- لا يحقق كما هو واضح النجاح المأمول، كما أن السياسة الأميركية القائمة على المبادئ في الماضي لم تعد تجدي نفعا.
وساقت فورين بوليسي (وتعني بالعربية “السياسة الخارجية”) أمثلة لتعزز ما ذهبت إليه بالنهج الذي كانت تتبعه الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة تجاه الشرق الأوسط، من قبيل احتواء نفوذ الاتحاد السوفياتي في المنطقة، وضمان استمرار انسياب النفط والغاز إلى الأسواق العالمية، والحرص على بقاء دولة إسرائيل.
ولتحقيق تلك الغايات في الفترة من 1945 حتى 1990، لعبت الولايات المتحدة دور “الموازن من الخارج”. فعلى النقيض من إقدامها على نشر قوات عسكرية في أوروبا أو آسيا، لم تضع واشنطن قوات كبيرة على الأرض في الشرق الأوسط وحافظت على تواجد عسكري منخفض هناك.
“ما تواجهه أميركا اليوم هو مجموعة صعبة ومعقدة من اللاعبين الساعين لتحقيق تشكيلة منوَّعة من الأهداف، ويتفاوت الواقفون معها ومن هم ضدها بتنوع مواقفهم من قضية إلى أخرى”
تحولات مفاجئة
ولما وضعت الحرب الباردة أوزارها، كان من المتوقع أن يتراجع ارتباط الولايات المتحدة بالمنطقة، إذ ما عاد هناك تهديد خارجي ذو بال لاحتوائه. وبدلا من ذلك عززت واشنطن من دورها منذ بدء حرب الخليج عام 1991. وعوضا عن مواصلة نهجها السابق القائم على توازن القوى، تركزت إستراتيجية إدارة الرئيس بيل كلينتون على مبدأ “الاحتواء المزدوج” مما جعل واشنطن تضطلع بدور شرطي المنطقة.
وزاد دور أميركا العسكري أكثر فأكثر عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول2001 في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، فكانت “العواقب وخيمة”. وانتُخب باراك أوباما استنادا إلى الوعود التي قطعها بإنهاء حرب العراق وبإعادة بناء العلاقات مع العالم الإسلامي، وتحقيق حل الدولتين للقضية الفلسطينية.
وتساءلت المجلة -التي تُعد من الإصدارات ذات التأثير على واضعي السياسة الخارجية الأميركية- بعد هذه الحيثيات والمعطيات، عن الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة تواجه صعوبات في منطقة الشرق الأوسط، قبل أن تجيب بأن السبب يكمن في فشلها في أن تأخذ في الحسبان التطورات المفاجئة التي أحدثت تحولا في المشهد الإستراتيجي للشرق الأوسط.
لقد كان احتواء النفوذ السوفياتي إبان الحرب الباردة من الأهمية بحيث جعل تحديد الأولويات واستدامة السياسات الأميركية أمرا ميسورا. أما اليوم فعلى النقيض من ذلك، إذ لم يعد هناك تهديد واحد يهمين على المنطقة، ومن ثم فليس هنالك مبدأ واضح يسترشد به صانعو السياسة الأميركية.
وتوضح المجلة أن البعض يريد أن يضع إيران في دور ذلك المهدِّد، لكن الجمهورية الإسلامية ما تزال طرفا ضعيفا للغاية ومشلولة داخليا بحيث لا يمكن اعتبارها محور اهتمام الإستراتيجية الأميركية. غير أنه في بعض القضايا -مثل خطر تنظيم الدولة الإسلامية- فإن الولايات المتحدة وإيران تقفان إلى جانب واحد معا.
باختصار، فإن ما تواجهه أميركا اليوم “مجموعة صعبة ومعقدة من اللاعبين الساعين لتحقيق تشكيلة منوَّعة من الأهداف، ويتفاوت الواقفون معنا ومن هم ضدنا بتنوع مواقفهم من قضية إلى أخرى”.
“إنَّ أمضى أدوات نفوذ واشنطن ليست ذات جدوى كبيرة، كما أن مصلحتها الإستراتيجية في المنطقة تتراجع، وليس من حلفاء أميركا الحاليين في المنطقة من يستحق حتى دعمها غير المشروط القائم على ذرائع أخلاقية”
مصير الشرق الأوسط
وتقر المجلة بأن العلاقات الأميركية مع حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط في أدنى حالاتها، “فتركيا انحرفت عن مسارها وعادت إلى الحكم الاستبدادي في عهد رجب طيب أردوغان… بينما تمضي إسرائيل نحو اليمين (التطرف) وما تزال ترفض مبدأ حل الدولتين الذي تفضله واشنطن، وسعت جاهدة لتقويض الاتفاق النووي مع إيران. وسقطت مصر مرة أخرى في أيدي طغمة عسكرية مستبدة.. أما العلاقات مع السعودية فقد شابها التوتر بسبب الاتفاق الأميركي مع إيران والاختلافات بشأن المقاربة المناسبة إزاء الحرب السورية أحيانا، وبسبب القلق المتعاظم تجاه الدور السعودي في الترويج لصيغة إسلامية ظلت تُلهم جيلا من التطرفين المناوئين للغرب أحيانا أخرى”.
ثم إن الانهيار المفاجئ لأسعار الطاقة واحتمال حدوث تخمة طويلة الأجل في النفط المعروض أثارت شكوكا حول المعايير المنطقية الإستراتيجية التي طالما شكلت أساسا لتورط الولايات المتحدة في المنطقة منذ عام 1945.
إن الولايات المتحدة لم تعد تستورد كميات كبيرة من نفط أو غاز الشرق الوسط، كما أن الخطر من انقطاع إمدادات كبيرة من الطاقة أقل في الوقت الراهن من أي وقت مضى في التاريخ القريب. وإذا استطاعت الولايات المتحدة ألا تعتمد قدر الإمكان على استيراد الطاقة (وتطلعت إلى انتهاج وسائل لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري على المدى البعيد)، فسيظل سبب استمرارها في إنفاق المليارات للدفاع عن إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط نيابة عن الدول الأخرى أمرا غير واضح.
ومضت المجلة إلى القول إن من العسير تحديد الدور الذي ينبغي على الولايات المتحدة أن تلعبه، لأن آليات رسم السياسات التي تُعد أسهل بالنسبة لواشنطن لا تتناسب مع المشاكل التي تكتنف المنطقة الآن. واستطردت قائلة إن الآلية الجاهزة للاستخدام تكمن في جشيها الذي ما فتئ قويا، سواء كان ذلك في شكل مساعدات عينية أو تدريب وغارات جوية وقوات بحرية خاصة وطائرات مسيَّرة، أو في أقصى الحالات “قوة تدخل سريع”.
تقول فورين بوليسي إن الشرق الأوسط يتحول أمام ناظرينا، ولم تعد حقائق السياسة الأميركية القديمة تنطبق على الواقع. إن أمضى أدوات نفوذ واشنطن ليست ذات جدوى كبيرة، كما أن مصلحتها الإستراتيجية في المنطقة تتراجع، وليس من حلفاء أميركا الحاليين في المنطقة من يستحق حتى دعمها غير المشروط القائم على ذرائع أخلاقية.
وإذا كان ذلك كذلك، فقمين بالولايات المتحدة أن تكف عن محاولة حل المشاكل التي لا تمتلك لها حكمة أو إرادة للتصدي لها. صفوة القول -كما تخلص المجلة- إن مصير الشرق الأوسط سيقرره من يعيشون فيه، لا الأميركيون.
المصدر : فورين بوليسي – الجزيرة