ذات مرة – خلال تسعينات القرن العشرين – اعتقد كثير من الأشخاص الجادين والأذكياء أن الأنظمة السياسية المعتدلة هي الموجة السائدة في المستقبل وأنها حتمًا سوف تشمل معظم أنحاء العالم، فقد قضت الولايات المتحدة على الفاشية ثم الشيوعية، حيث كان يفترض أنها قد أوصلت البشرية إلى “نهاية التاريخ”، وقد بدا أن الاتحاد الأوروبي كتجربة شجاعة للسيادة المشتركة التي خلصت معظم أجزاء أوروبا من الحرب، وبالفعل يعتقد كثير من الأوروبيين أن المزيج الفريد من المؤسسات الديموقراطية والأسواق المتكاملة وحكم القانون والحدود المفتوحة جعلت “القوة المدنية” الأوروبية تعادل – إن لم تكون تفوق – “القوة الشديدة” للولايات المتحدة، ومن جانبها، التزمت الولايات المتحدة “بتوسيع نطاق الحكم الديموقراطي والتخلص من الحكام المستبدين وترسيخ “السلام الديموقراطي”، ومن ثم التبشير بنظام عالمي خير ودائم”.
إذا كنت لاحظت، فإن تفاؤل تسعينات القرن الماضي قد أفسح المجال لشعور متزايد باليأس – وحتى الحذر – من النظام الليبرالي الموجود، ويرى روجر كوهين من صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية، وهو ليبرالي مخلص ومتعمق، أن “قوى التفكك قد بدأت في التقدم” وأن “أسس عالم ما بعد الحرب بدأت في الاهتزاز”، كما حذر تقرير صدر في أبريل عن المنتدى الاقتصادي العالمي أن هناك عددًا من القوى التي تمثل “تحديًا للعالم الليبرالي – من بينها الأنظمة الاستبدادية القوية والحركات الأصولية المعادية لليبرالية”، وفي مجلة نيويورك، حذر أندرو سوليفان من أن الولايات المتحدة نفسها قد تكون عرضة للخطر لأنها أصبحت “ديموقراطية أكثر من اللازم”.
تلك المخاوف يمكن استيعابها، ففي روسيا والصين والهند وتركيا ومصر – وحتى هنا في الولايات المتحدة – نرى إما أنظمة استبدادية قوية أو تطلع إلى زعيم قوي يستطيع بأفعاله الجريئة القضاء على حالة السخط الحالية، ووفقًا للخبير الديموقراطي لاري دياموند فإنه “بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠١٥، انهارت الديموقراطية في ٢٧ دولة”، بينما “أصبح العديد من الأنظمة الاستبدادية أقل انفتاحًا وشفافية واستجابة لمواطنيها”، لقد صوتت بريطانيا العظمى للخروج من الاتحاد الأوروبي؛ وتتجه بولندا والمجر وإسرائيل نحو التعصب؛ إضافة إلى أن واحد من الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة على وشك اختيار مرشح رئاسي يزدري علنًا التسامح الذي يعد شيئًا أساسيًا في المجتمع الليبرالي، ويعبر بشكل متكرر عن معتقداته العنصرية ونظريات مؤامرة لا أساس لها، حتى أنه شكك في فكرة استقلال القضاء، وبالنسبة لأولئك المخلصين للمثل الليبرالية الأساسية، فإن هذه أوقات غير سعيدة.
إن نظرتي للسياسات العالمية والسياسة الخارجية واقعية، لكنني لا أرى أي متعة في هذه التطورات على الإطلاق، وكما قال روبرت جيلبين: “إذا تم الضغط علي فربما أصف نفسي بأنني ليبرالي في عالم واقعي”، وأعني بهذا أنني أقدر فضائل المجتمع الليبرالي، وأنني ممتن للعيش في هذا المجتمع، وأعتقد أن العالم قد يكون مكانًا أفضل بالفعل إذا تم احتضان المؤسسات والقيم الليبرالية بشكل أوسع نطاقًا – أو حتى عالمي، (إنني أشكك في قدرتنا على التعجيل بهذا، وبخاصة باستخدام القوة العسكرية، لكن هذه مسألة أخرى)، لذلك فإن الأمور كانت لتكون أفضل كثيرًا بالنسبة لي إذا تمكن الليبراليون من تحقيق آمالهم السابقة، ولكنهم لم يفعلوا، ومن المهم أن نفكر في السبب.
المشكلة الأولى هي أن أنصار الليبرالية قد أسرفوا في الحديث عن مزاياها، فقد قيل لنا إنه إذا استمرت الأنظمة الديكتاتورية في السقوط وأجرى المزيد من الدول انتخابات حرة ودافعوا عن حرية التعبير وطبقوا حكم القانون وتبنوا الأسواق التنافسية وأصبحوا أعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، فسوف يكون هناك “منطقة سلام” شاسعة، وسوف ينتشر الازدهار، كما سيكون من السهل التعامل مع أي خلافات سياسية عالقة داخل إطار النظام الليبرالي
وعندما لم تسر الأمور بهذه السلاسة، وعندما تضررت بعض المجموعات في هذه المجتمعات الليبرالية جراء هذه التطورات، كانت هناك نتائج عكسية بدرجة ما، فقد ارتكبت النخب داخل العديد من المجتمعات الليبرالية أخطاء فادحة، من بينها توحيد العملة (اليورو) وغزو العراق والمحاولة المضللة لبناء الهوية في أفغانستان، والأزمة المالية في عام ٢٠٠٨. تلك الأخطاء وغيرها ساعدت على تقويض شرعية نظام ما بعد الحرب الباردة، وفتحت الباب أمام القوى الليبرالية وتركت بعض فئات المجتمع الأخرى عرضة لطلبات الهجرة.
كما واجهت جهود نشر النظام الليبرالي العالمي معارضة متوقعة من الزعماء والمجموعات التي تمثل لها تلك الجهود تهديدًا مباشرًا، فقد كان أمرًا مفاجئًا أن تبذل كل من إيران وسوريا وسعهما لإحباط الجهود الأمريكية في العراق، مثلا لأن إدارة جورج بوش قد أوضحت أن تلك الأنظمة على قائمة أهدافها أيضًا، وبشكل مماثل، هل من الصعب معرفة السبب الذي يجعل الصينيين والروس يعتقدون أن الجهود الغربية لنشر القيم “الليبرالية” تمثل تهديدًا لهم، أو لماذا اتخذوا خطوات عديدة لإحباط تلك الجهود.
كما نسي الليبراليون أيضًا أن المجتمعات الليبرالية الناجحة تتطلب أكثر من مؤسسات ديموقراطية رسمية؛ فهي أيضًا تعتمد على التزام واسع وعميق بالقيم الأسياسية للمجتمع الليبرالي، وأهمها التسامح، وكما أظهرت الأحداث في العراق وأفغانستان وأماكن أخرى كثيرة، فإن كتابة الدستور وتكوين الأحزاب السياسية وإجراء انتخابات “حرة وعادلة” لن تنتج نظامًا ليبراليًا حقيقيًا حتى يتبنى الأفراد والجماعات الموجودة في المجتمع أيضًا المعايير الليبرالية الأساسية، وهذا الالتزام الثقافي والمعياري لن يم تنميته بين عشية وضحاها أو فرضه من الخارج، وبالطبع ليس بالطائرات بدون طيار والقوات الخاصة وأدوات العنف الأخرى.
كما أنه من الواضح بجلاء أن ليبراليي ما بعد الحرب الباردة قد استهانوا بدور القومية الأشكال الأخرى للهوية الوطنية، بما فيها الطائفية والعرقية والروابط القبلية وما شابه ذلك، فقد افترضوا أن تلك الروابط الرجعية سوف تختفي تدريجيًا، أو تنحصر في الأمور غير السياسية والتعبيرات الثقافية أو يتم موازنتها واحتوائها ببراعة داخل المؤسسات الديموقراطية المصممة بشكل جيد.
لكن يتضح أن الكثير من الناس في الكثير من الأماكن يهتمون بشكل أكبر بالهويات القومية والعداوات التاريخية والرموز الإقليمية والقيم الثقافية التقليدية أكثر مما يهتمون بـ”الحرية” كما يعرفها الليبراليون، وإذا كان التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يقول شيئًا، فهو أن بعض المصوتين (ومعظمهم من كبار السن) يمكن إقناعهم بمثل تلك الدعاوى بسهولة أكبر من إقناهم بالاعتبارات الإقتصادية العقلانية البحتة (على الأقل حتى يشعروا بالعواقب).
ربما نعتقد أن أفكارنا الليبرالية تصلح للتطبيق عالميًا، ولكن في بعض الأحيان تتفوق عليها قيم أخرى، وتلك المشاعر التقليدية سوف تلوح بشكل خاص عندما يكون التغيير سريعًا وغير متوقع، وبخاصة عندما يتم إجبار المجتمعات التي كانت تتسم بالانسجام على دمج واستيعاب أناس ذوي خلفيات مختلفة، ويتم هذا خلال فترة قصيرة جدًا، كما يمكن لليبراليين أن يتحدثوا كما شاؤوا عن أهمية التسامح ومزايا التعددية الثقافية (التي أؤمن بها أيضًا)، ولكن الحقيقة هي أن دمج الثقافات في كيان واحد لم يكن أبدًا سلسًا أو بسيطًا، وتعطي التوترات الناتجة فرصة للزعماء الشعبويين الذي يتعهدوم بالدفاع عن القيم “التقليدية” (أو “إعادة مجد البلاد)، ليس الحنين للماضي هو المقصود، ولكنه يظل التعبير السياسي الأنسب.
والشيء الأكثر أهمية هو أن المجتمعات الليبرالية اليوم في ورطة لأنها معرضة للاختتطاف من قبل مجموعات أو أفراد يستغلون الحريات التي تقوم عليها المجتمعات الليبرالية، كما كان يفعل دونالد ترامب طوال العام (وكما أظهر بعض الزعماء السياسيين في الماضي، مثل جان ماري لوبان ورجب أردوغان وجيرت وايلدرز)، فالزعماء أو الحركات الذين يعد التزامهم بالمبادئ الليبرالية سطحي في أحسن الأحوال يمكنهم أن يستغلوا مبادئ المجتمع المنفتح ويستخدموه لحشد تأييد شعبي، ولا يوجد شيء في النظام الديموقراطي يمكنه أن يضمن فشل تلك الجهود بشكل دائم.
في أعماقي، أعتقد أن هذا يفسر شعور كثير من الناس في الولايات المتحدة وأوروبا بالحاجة الملحة باندماج العم سام في أوروبا بشكل كامل، إذ أنهم لا يخافون من جرأة روسيا؛ بل يخافون من أوروبا نفسها، ويريد الليبراليون أن تظل أوروبا في مسالمة ومتسامحة وديموقراطية وأن تظل جزءًا لا يتجزأ من إطار الاتحاد الأوروبي، كما يرغبون في أن تندمج دول مثل جورجيا وأوكرانيا بشكل أكبر في الدائرة الديموقراطية الأوروبية، ولكنهم في قرارة أنفسهم لا يثقون في نجاح الأوروبيين في إدارة هذا الموقف، ويخافون من انهيار كل شيء إذا انسحب الأمريكان، ولكن المدافعون عن الليبرالية، بالرغم من كل مزاياها، لا يستطيعون أن يغيروا قناعة البعض بأن الليبرالية الأوروبية هشة جدًا وأنها تتطلب دعمًا أمريكيًا غير محدود، من يعلم؟ ربما كانوا على حق، ولكن إذا كنت لا تعتقد أن الولايات المتحدة لديها موارد لا نهائية واستعداد غير محدود لدعم دفاعات الدول الغنية الأخرة، هنا يكون السؤال: ما هي الأولويات العالمية الأخرى التي يمكن أن يكون الليبراليون على استعداد للتضحية بها للحفاظ على ما تبقى من النظام الأوروبي؟
فورين بوليسي – التقرير