سقطت أنظمة عربية وتغيرت أخرى بفعل التظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات خلال الفترة الماضية، ولم يستطع الحكام الجدد التخلص تماما من الطبقة السياسية السابقة عليهم. وفشلت محاولات الإقصاء والتهميش في قطع دابرهم من دهاليز السلطة، وبات ينطبق على معظمهم شعار أنتجته القريحة الشعبية العربية، مفاده بأنهم قد “خرجوا من الباب ودخلوا من الشباك”.
يدلّ هذا الشعار على طبيعة الحيل والمناورات التي يمتلكها هؤلاء، ومكنت قطاعا كبيرا منهم من التمترس بالقرب من وحول السلطة مرة ثانية.
عاشت مصر وتونس مرحلة شبيهة من هذا النوع. وتوشك الجزائر والسودان على تكرار المشهد، مع تغيرات طفيفة في الوسائل والأدوات والأدوار. وفي المحصلة قد تكون النتيجة واحدة، ألا وهي عودة مظفرة لبعض رموز النظام السابق وأحزابه.
نجحت المؤسسة العسكرية الجزائرية في إجراء انتخابات رئاسية، وتخطت الرفض الشعبي لها، وأدخلت تعديلات على بعض القوانين لمنح ثقة في الانتخابات وتوفير أجواء مناسبة لها. وترشح خمس من القيادات المحسوبة على نظام عبدالعزيز بوتفليقة السابق، بدرجات متفاوتة، ونجح أحدهم، عبدالمجيد تبون، غير أن الهواجس تظل باقية بشأن حدوث التغيير الكامل، والتجاوب مع مطالب المحتجين.
يعيش السودان ظرفا سياسيا مختلفا، لكن تبقى المخاوف الكامنة مرئية، لأن العثرات التي تواجهها السلطة الانتقالية قد تجبرها على تخفيف إجراءات تقويض روافد نظام الرئيس المعزول عمر حسن البشير. نعم اتخذت الحكومة جملة من الخطوات الجادة والحاسمة، لكن هؤلاء الفلول لا يزالون يتحركون من خلال قنوات شرعية، وغير شرعية يصعب اكتشافها، ولديهم من الطرق ما يمكنهم من القفز على الكثير من الحواجز السياسية.
ربما يرتدي البعض منهم حلة سياسية براقة، ويتبنون أفكارا مراوغة، وأحيانا يتمسكون بقناعاتهم وثوابتهم. في كل الأحوال تفشل النخبة الجديدة في التخلص منهم لوجود ممانعات وعوائق ومحرمات مستترة، وعدم رغبة في التخلص منهم بسبب شبكة مصالح ملتوية، وقدرة فائقة على التحكم في مفاصل الاقتصاد، وتغلغل عميق في عدد من المؤسسات الرسمية، ويطلق عليها وصف “الدولة العميقة”.
تتجاوز المسألة هذه الاعتبارات، وتنقلها إلى مربع آخر، يبدو أصحابه من المكبّلين بمجموعة من المحددات التي تلعب دورا في ترتيب أوراق القادمين من الخلف إلى السلطة من دون سابق معرفة بخفاياها، بما يجعل قواعدها تفرض التعامل مع بعض القوى بطريقة لينة، لأن التمادي في الصرامة وتوسيع أطرها بلا حسابات دقيقة تحت مبرر الحراك الثوري يمكن أن يرتدّ على الجماعة الحاكمة، ويقود إلى مشكلات في زمن تتزايد فيه الارتباكات السياسية والأمنية.
يفضي السعي الحثيث إلى التمكين والتصفية العشوائية إلى هزات كبيرة في هياكل الدولة، وتدخل الطبقة الحاكمة في دوامة من الأزمات المتلاحقة. ويعطي نموذج حكم جماعة الإخوان في مصر دلالة قوية على الاستعجال والنهم للسلطة وقلة الخبرة السياسية في تكييف المعطيات بما يتوافق مع بنيان الدولة وليس بنيان التنظيم.
لم تقبع الجماعة في السلطة أكثر من عام، وانقلب عليها الشارع والمؤسسات الحية والميتة بسبب رعونتها حتى سقطت من الكرسي الذي اعتلته في غفلة من الزمن. وقدمت درسا مهما في فنون إدارة الدول وآليات تغيير الحكم. الأمر الذي استوعبه البعض وفرض عليهم التمهل في التعاطي مع بقايا الأنظمة السابقة لتحاشي الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدتها القاهرة عقب سقوط الإخوان.
هي ضريبة يراها مصريون كثيرون مقبولة طالما أنها جنبتهم لعقود خطر الجماعة وذيولها من الحركات التي تتبنى العنف كمنهج للوصول إلى الحكم، واجتثت جانبا أصيلا فيه، لكنها وضعت البعض في مأزق بين الثمن الذي يمكن دفعه في هذه الحالات، وبين تقبل تنظيمات أدمنت الخروج على القانون، حتى لو أعلنت التمسك به والتقيد بأحكامه.
للتجربة المصرية خصوصيتها في فترتين، بعد سقوط نظام الرئيس حسني مبارك، وعقب عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي، فقد جرى التسامح نسبيا مع عدد من رموز الأول وتقبل انخراطهم في الحياة السياسية مرة أخرى بقدر من الانفتاح والأريحية، بينما تم التعامل بحزم مع فريق الإخوان، لأن أنصاره ارتكبوا حماقات أمنية وجرائم إرهابية، أفقدتهم كل رصيد للغفران وتقبل حضورهم في المشهد السياسي العام.
مع ذلك هناك شكوك مستمرة في عدم استبعاد تأثيرهم في الشارع المصري، بما فرض إحكام الرقابة الأمنية وتغليب الانتقائية السياسية خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتعديلات الدستورية التي تمت بعد سقوط حكم الإخوان، ما يفسر تأجيل تنظيم الانتخابات المحلية في مصر أكثر من مرة، حيث تستطيع بقايا جماعة الإخوان ممارسة ضغوط تضمن نجاح كوادر محسوبة عليها، قد تمتطيها وتتسرب منها إلى مجالات حيوية.
ولج نظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الطريق الأشد صعوبة عند تعامله مع الإخوان، وصمم على بتر انتشارهم وتغلغلهم في نسيج المجتمع، وسلك المسار الأكثر سهولة مع بقايا نظام مبارك وفتح لهم مجال المشاركة السياسية، لأن القضية مع الجماعة لم تعد سياسية فقط، بل تداخلت مع جوانب لها علاقة بالإرهاب في المنطقة، الأمر الذي جعل خيار الحسم نهائيا.
تتوقف عودة أو غياب ما يسمى بالفلول في أي دولة، عن الممارسة السياسية في بعض الساحات العربية على جملة من العوامل، في مقدمتها خبرة النظام الجديد وأدوات القوة المعنوية والمادية التي يمتلكها، ومتانة مؤسسات الدولة أو رخاوتها، ومدى القدرة على الحشد الشعبي، وتكتيل الأوراق التي تمكّن السلطة الحاكمة من القبض على مقاليد الأمور.
بقاء الحكام لفترات طويلة في السلطة، كما حصل في مصر خلال عهد مبارك، وتونس في زمن زين العابدين بن علي، والسودان إبان هيمنة البشير، والجزائر وقت حكم عبدالعزيز بوتفليقة، تسبب في صعوبة تقويض الرموز والأحزاب وجماعات المصالح التي ظهرت وانتشرت وتشعبت في أركان الدولة. ويقود التعامل بخشونة مع هؤلاء إلى حدوث هزات تعطل مسيرة الحكم الذي يصبح حائرا بين خياري التسامح والانهيار، خاصة إذا افتقر النظام لأدوات القوة الشاملة.
في الدول التي سقط حكامها وانهار كثير من قواعدها السياسية والعسكرية والاقتصادية، تلعب فلول النظام السابق دورا محوريا في تحريك الأحداث وسط الحطام. فالبقايا الرشيدة في نظام الرئيس علي عبدالله صالح باليمن يصعب خروجها من الحلبة السياسية التي تتم إعادة صياغتها مرة أخرى، باعتبارها أحد عناصر الضبط في المشهد اليمني المترنح بين أقطاب عدة.
أضف إلى ذلك أن العناصر المحسوبة على نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا يُنظر إليها الآن كأحد المكونات الوازنة في التسوية المرجوة، والمرجح أن تكون طرفا أساسيا في المعادلة الجديدة، بعد فترة من تهميشها حسب فيها الكثيرون أنه يمكن صياغة دولة ليبية جديدة من دون هؤلاء العناصر، وتجاهلوا عمق حضورهم السياسي والعسكري والاجتماعي.
ليس ثمة محاولة هنا في إعادة الاعتبار لنظام معين، لكن من الضروري النظر إلى الظاهرة بصورة محايدة، لأن تفسيرها يمكن أن يساعد في إجلاء جانب من الصورة العربية القادمة. فثمة دولتان -العراق ولبنان- دخلتا منعطفا سياسيا مصيريا، وقد تواجهان موقفا لا يقل ضراوة عن السيناريوهات التي ظهرت قسماتها بجلاء أو بغموض في دول عربية أخرى.