ما حدث أمس في مجلس الأمن وخاصة الموقف المصري، جعل الناس يضربون أخماسا في أسداس؛ لأنه مثير للدهشة والذهول؛ لأن المجلس كان مطروحا عليه مشروعي قرار بخصوص سوريا، مشروع قرار فرنسي يدعمه العالم كله باستثناء روسيا، ومشروع روسي يرفضه العالم كله باستثناء روسيا وفنزويلا، المشروع الأول يلزم الجميع بوقف الغارات الجوية الوحشية على الشعب السوري في حلب، التي يشاهد العالم مشاهدها حية على مدار الساعة بصورة لا تصدق، والقرار الثاني (الروسي) يرفض ذكر ذلك، الطريف في الموقف، الذي أذهل الناس، أن مصر صوتت بالموافقة على المشروعين، الفرنسي والروسي، هل تذكرون نكتة: كل شيء وعكسه؟!
الأمر لم يكن مجرد نكتة فقط أثارت سخرية الجميع من الديبلوماسية المصرية وغرائبيتها، بل الخطورة أن الموقف المصري بالموافقة على مشروع القرار الروسي، كان تحديا لمن يصفهم رئيس الجمهورية نفسه بحلفائه الرئيسيين في الخليج العربي، وخاصة السعودية التي كانت ـ مع العالم كله تقريبا ـ ضد المشروع الروسي، وترمي بثقلها وراء المشروع الفرنسي الذي يحمي المدنيين في حلب من القصف الوحشي الروسي، ولم يكن يخطر على بالها أبدا أن تتحداها مصر في المجلس وتصوت لصالح المشروع المضاد، وهو الأمر الذي انعكس على تصريحات المندوب السعودي في مجلس الأمن، فلم يتمالك نفسه وعبر عن دهشته من الموقف المصري في صيغة مقارنة مع ماليزيا والسنغال، وقال إنه مؤلم جدا أن يكون موقف السنغال وماليزيا أقرب للقضايا العربية من الموقف المصري.
دع عنك الموقف الأخلاقي، الإنساني، الذي أحرج حتى الصين، الحليف التقليدي لروسيا في سوريا، فامتنعت للمرة الأولى عن دعم قرارها، وامتنعت عن التصويت، دع عنك أن تكون “بني آدم” ترى على الهواء مباشرة يوميا طوفان الغارات، التي تهدم كل شيء وتسوي المدينة بالتراب وتقتل يوميا عشرات الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، وتتعمد ضرب المستشفيات والمخابز لجعل الحياة مستحيلة من أجل تفريغ المدينة من سكانها، وليس من الإرهابيين المزعومين، لإحداث تغيير ديموغرافي في سوريا، والعالم كله يرى ذلك بوضوح كامل، دع عنك أن تكون “بني آدم”، لكن على الأقل راعِ مصالحك ومصالح داعميك التي لا تتعارض جوهريا مع مواقفك هنا، حتى لو كنت مؤيدا لبشار الأسد، فأنت تعرف أن تصويتك لن يقدم ولن يؤخر في القرار النهائي لمجلس الأمن، لا لك في العير ولا في النفير، كمالة عدد، واللعبة هي بين الدول الخمس صاحبة “الفيتو”، فعلى الأقل اجعل لك موقفا ولو مجاملا لشركائك في الخليج العربي، الذين يضخون لك يوميا مئات الأطنان من الوقود شبه المجاني لإنقاذ بلدك بل إنقاذ نظامك نفسه من السقوط، يا أخي، أيهما أولى لمجاملتك، نظام بشار الإجرامي أم الحكومة السعودية التي تنتظر منها هذه الأيام أن “تتصدق” عليك بثلاثة مليارات دولار، تضعها وديعة لضمان حصولك على قرض صندوق النقد الدولي، الذي تعلق عليه آمالك في إنقاذ اقتصادك، يا أخي لا أحدثك أن تكون “بني آدم” لكن أحدثك أن تكون عاقلا ترى مصالحك وترعاها.
محير جدا أن تحاول فهم أي منطق سياسي لهذا البلد، لا في السياسة الخارجية ولا في السياسة الداخلية، نظام يعمل ضد مصالحه ومصالح مواطنيه الحيوية، نظام يضرب شركاءه، نظام يعاقب داعميه، هل هذا نظام يملك أي حد أدنى من العقلانية السياسية، إن أكثر أهل الخليج المتعصبين لنظام السيسي ودعمه، أصيبوا بالإحباط ويكتبون اليوم علنا يقولون إننا خدعنا، وأن هذا جزاء “سنمار”، ويطالبون حكومات بلادهم بوقفة مع مصر ومع الرئيس السيسي شخصيا، ولا يمكنك أن تلومهم، لأنه يستحيل أن يعمل الآخرون على إنقاذك ودعمك وتقويتك كلما أوشكت على الانهيار، وأنت في كل مرة تخذلهم وتدعم خصومهم، ولحساب من؟ لحساب مجرم قاتل دموي مستهتر مثل بشار الأسد، قتل نصف مليون من شعبه، وهجر ثمانية ملايين، وهدم مدنا بكاملها وسواها بالتراب، وتتخذه أنت نفسك مثلا للوحشية والدمار والخراب كلما تحدثت مع شعبك، داعيا إلى تجنب أن نكون “مثل سوريا”، أي عبثية سياسية تلك؟!
جمال سلطان_عربي21