بيروت- قال دبلوماسي إيطالي ذات مرة: “يمكن أن تكون أكثر زوايا الأزمة ظلمة هي الأكثر إضاءة لفهم الديناميات الجيو-سياسية”. وهنا يجد لبنان نفسه بالضبط؛ حيث يشكل واحداً من قلة من بلدان الشرق الأوسط التي ليست في حالة حرب، لكنه يبقى بلداً يعاني في الخنادق مع ذلك.
في هذه الأيام، ما يزال لبنان بعيداً عن انتباه وسائل الإعلام الدولية، فيما عدا التغطيات الثانوية لاحتجاجات حركة “طلعت ريحتكم” ضد أزمة جمع القمامة في بيروت. لكنه لا يجد نفسه حاضراً مباشرة وكما يجب أمام عيون الخبراء الأجانب الذين ينظرون إلى التوازن الطائفي الهش القائم فيه على أنه المفتاح لفهم مستقبل المنطقة برمتها.
في حديث خاص، يعتقد عضو بارز في وزارة الخارجية الفرنسية أن لبنان هو “الحدود النهائية والقصوى للاستقرار المحلي، وحيث يمكن أن ينهار كامل الهيكل في أي لحظة مثل بيت من الورق“.
كانت محاولة أخيرة لانتخاب رئيس للدولة، هي المحاولة الثلاثين التي تمنى بالفشل. وما يزال البلد بلا رئيس منذ سنة ونصف السنة. ويعود هذا الجمود التنفيذي إلى تعنت اثنتين من الكتل السياسية التمعارضة في بيروت -تحالف 8 آذار الموالي لإيران والذي يقوده حزب الله من جهة، وتحالف 14 آذار الموالي للسعودية من الجهة الأخرى.
ثمة الآن حديث عن تسوية؛ حيث قد يتم اختيار رئيس انتقالي مؤقت من القوات المسلحة، لكن هذه المسألة تظل مجرد واحدة فقط من الويلات التي يعانيها لبنان، والتي تضيف إلى التدفق القادم من الحرب الأهلية السورية، والذي جلب نحو 1.6 مليون من اللاجئين الذين فروا إلى لبنان عبر الحدود. وقد أصبح عدد السوريين الآن يعادل ثلث سكان البلد، لكن الحكومة في بيروت ما تزال مترددة في إقامة مخيمات لاجئين لائقة لهم، خشية أن تصبح تلك المخيمات دائمة مثل المخيمات الفلسطينية التي أقيمت في الماضي.
كما يواجه البلد أيضاً اقتصاداً هشاً وحدوداً مضطربة. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن الاقتصاد اللبناني خسر نحو 7.5 مليون مليار دولار بين العامين 2012 و2014، وهو ما أغرق نحو 17.000 شخص في مستنقع الفقر. وما تزال القوات المؤقتة التابعة للأمم المتحدة العاملة في لبنان (يونيفيل) تحافظ على وقف إطلاق النار على الحدود الجنوبية مع إسرائيل، لكن حزب الله منخرط علناً في حرب ضد مجموعة “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة” -فرع تنظيم القاعدة في سورية- على الحدود الشرقية.
نظرة من الداخل
يقول خالد، 40 عاماً، صاحب مطعم من بيروت: “لم تكن المدينة ممتلئة أبداً كما هو حالها اليوم. هناك السعوديون ممن لا يستطيعون الذهاب إلى أي مكان آخر لإنفاق نقودهم (نظراً للتوترات السياسية). وهناك الروس. وهناك السوريون الأغنياء الذين ينتظرون منذ أربع سنوات للعودة إلى ديارهم، والسوريون الفقراء الذين يستجدون النقود في الشوارع. وهناك الصحفيون من كل أنحاء العالم، وعمال الإغاثة، والجواسيس، ورجال الأعمال الغربيون: إن بيروت ممتلئة تماماً“.
ويقول خالد إن لدى اللبنانيين طريقة للعيش “كما لو أن شيئاً لم يحدث، وهم يهنئون الجيش على جلب الهدوء إلى طرابلس” بعد العنف الطائفي. “لكن الجيش موجود في كل مكان، حتى في وسط المدينة. ومبنى البرلمان لا يمكن التعرف عليه الآن، فقد بنوا جداراً حوله بعد الاحتجاجات، وأصبح يبدو الآن أشبه بسجن”. ويضيف خالد: “الكل هنا محبطون ويعيشون على طريقة “من اليد إلى الفم”، وما يزال يمكنك أن تخرج في المساء، لكن كل شيء باهظ الثمن“.
يتمتع المجتمع اللبناني بالكثير من المرونة، ربما لأنه عاش دائماً مثل هذه الحالة البعيدة عن الاستقرار. وقد عاد خالد مؤخراً إلى بيروت بعد جولة طويلة قضاها في الخارج، وهو ما قد يفاجئ العديد من السكان المحليين الذين يتصيدون الفرصة لمغادرة البلد. ويقول خالد: “هناك طابور طويل من الناس المصطفين أمام السفارة الألمانية من أجل التأشيرات، حتى مع أن اللبنانيين لا يتأهلون للحصول على اللجوء السياسي. بل إن البعض يسافرون إلى تركيا ويحاولون الوصول إلى أوروبا من هناك، مثل السوريين“.
الحياة قاسية في لبنان، وفقاً لخالد. “كل شيء يجب دفع ثمنه مرتين. إنك تدفع للحكومة ولشركة مولدات الكهرباء معاً، لأنه ليس هناك تيار كهربائي لمدة 3 إلى 4 ساعات كل يوم. ولا يعمل قطاع الرعاية الصحية التي تقدمها الدولة جيداً، ولذلك يحصل الناس على تأمين من القطاع الخاص، خاصة بسبب التفجيرات. وفي أوقات فراغك، لا يمكنك أن تذهب إلى أي مكان، لأن هناك حرباً تخاض على حدودنا“.
ما يزال السلام متماسكاً في لبنان الآن، لكن على البلد أن يشق طريقه وسط حقل ألغام من التهديدات كل يوم. هناك تهريب المخدرات الذي يتوسع بشكل كبير وبسرعة من أجل تمويل جهود الحرب في سورية، وقد صادرت السلطات مؤخراً طنين من المخدرات الاصطناعية من طائرة خاصة لأمير سعودي. ويواصل الجيش اللبناني شن الهجمات الجوية لقصف مجموعتي “جبهة النصرة” و”الدولة الإسلامية” في شمال شرق البلاد، حتى بينما يقال إن المجموعة الأخيرة بدأت بالتسلل إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حيث تقوم بإذكاء نار العداوات الطائفية الداخلية.
بسبب المشاكل العديدة التي يواجهها لبنان، فإنه يجب النظر إلى احتجاجات حركة “طلعت ريحتكم” الجماهيرة الكبيرة المناهضة للحكومة في السياق الأوسع بدلاً من مجرد حصرها في أزمة جمع القمامة، التي تشكل رمزاً فقط للتحديات العديدة التي يواجهها البلد. وقد أصبح ذلك مجازاً يوحد المجتمع المنقسم -المسيحيين، السنة، الشيعة، الدروز والآخرين. ويقول خالد: “إنه أفضل وأنظف شيء يحدث في لبنان منذ زمن طويل“.
الغد الاردنية