في كل يوم يخرج علينا مسؤول سياسي ودبلوماسي رفيع المستوى ليتحدث بلهجة المتغيرات فقط, المتغيرات السياسية الخاضعة للمناخ الدولي الجديد والذي تسعي جميع الأطراف الدولية لإعادة ترتيب مصالحها فيه على أساس المعطيات الآنية الرابضة على أرضية الثوابت التي تنتهجها هذه الأطراف في تحديد وتبديل تحلفاتها بصور مختلفة بحيث يتغير فيها الشكل والعنوان في حين يبقى المضمون كما هو دون أي جديد.
الشكل والعنوان الجديد هما قناعة اللاعبين بعدم مناقشة مصير رئيس النظام السوري بشار الأسد في المرحلة الانتقالية السورية, وطي هذا السجل أو ترحيله إلى وقت آخر يحددونه هم, ولكن الثابت من الأمر أن هذا الطرح جدي وتاريخ الأحداث السورية التي مرت من عمر الثورة السورية يثبت ذلك, ومن يحاول أن يجمّل هذا الواقع ليجد تفسيراً آخر لهذا الطرح لن يكون منطقياً في تحليله ولا حتى موضوعياً في فهمه واستنتاجه.
فجميع المطالبات السابقة والتي جاءت على لسان العديد من المسئوولين الدوليين بضرورة رحيل الأسد لم تكن سوى عنواناً جديداً فقط ليس له أي أهمية تذكر, فيما بقي المضمون كما هو, والذي هو القبول الضمني ببقاء النظام في الحياة السياسية السورية مستقبلاً بصورة يتم التوافق عليها, رغم ارتكاب النظام لأبشع أنواع المجازر وتجاوزه كل الخطوط الحمراء التي رسمها له المجتمع الدولي, ومن يريد أن يقول بأن المجتمع الدولي عجز عن إيجاد الأدوات والوسائل لمحاسبة مرتكبي الفظائع بحق المدنيين في سورية لن يكون صادقاً في تشخيصه, لأن المجتمع الدولي يقوم على أساس نظام عالمي له أولويات يعمل على أساسها ولن تكون هذه الاولويات على حساب النظرة الإنسانية بل على حساب المصالح والتحالفات فقط لا غير.
فالتصريحات الأمريكية الجديدة والتي تناغمت معها التصريحات الفرنسية حول “مسألة عزل الأسد من السلطة لم تعد في سلم الأولويات”, هي عبارة عن عنوان جديد لا يغير من المضمون القديم, فالولايات المتحدة الأمريكية وعبر سنين الثورة الستة اتخذت دور المراقب للأحداث فقط, فيما اكتفى حلفاؤها الأوروبيون بالتصريحات الكلامية التي لم تؤثر على نية النظام في استمرار حربه ضد الشعب السوري الثائر, هذه المواقف إن دلت على شيء فهي لا تدل إلا عن عدم رغبة هذه الأطراف في مساعدة الشعب السوري على تغيير نظام الحكم الاستبدادي في البلاد, بل تجعلنا نذهب للتفكير فيما هو أبعد من ذلك وهي رغبة هذه الأطراف في المحافظة على البنية الصلبة للنظام السوري كمكافاة له على خدماته الكثيرة التي سبق وأن قدمها لهم على حساب القضايا العربية والإقليمية, سيما وأنه انتحل شخصية “الخادم المطيع” وخصوصاً في حماية حدود دولة الكيان الصهيوني المحتل “إسرائيل الطفل المدلل”.
ومع ذلك ثمة العديد من المعارضين السوريين الذين ما زالوا يحاولون إقناع أنفسهم وإقناع الشعب السوري بأن المواقف الأمريكية والاوروبية الجديدة هي نتيجة لعدم تبلور الرؤية الامريكية مع إدارتها الحديثة العهد في البيت الابيض برئاسة الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب”, وفي نفس السياق يحاول المسئولون الفرنسيون تهدئة التصريحات النارية لانهم مقبلون على مرحلة جديدة وحساسة من الانتخابات التي يتوقع فيها تصاعد تيار “اليمين المتطرف” الذي يكتسب شعبية جديدة في أوروبا يوما بعد يوم.
لا شك أن هذه التحليلات قد تكون قريبة من الواقع عندما نتحدث بلغة الدبلوماسية “السياسية” الناعمة, ولكنها تكون على نقيض مختلف عندما نربطها بالواقع الميداني على الأرض, فالولايات المتحدة الامريكية لم توفر بذل أي جهد فعال للمضي في حربها ضد ما تسميه “بالإرهاب”, وعقدت التحالفات وجهزت القواعد العسكرية وسخرت الخزائن المالية لدعم هذه الحرب التي تراها مقدسة من وجهة نظرها لاعتبارات كثيرة, في حين أنها تغافلت عن إرهاب الدولة الحقيقي والذي يمارسه النظام بحق أبناء الشعب السوري, رغم أنها تعلم ما يجري في سورية بدقة شديدة, والأكثر من ذلك أنها سمحت لحلفاء النظام الحقيقيين من الروس والإيرانيين بالتدخل الفعلي في سورية لمشاركة النظام في ذبح السوريين, فهذا ليس إرهاباّ في نظرها يستدعي التدخل طالما أنه لا يمس مصالحها في المنطقة والتي هي مع مصالح “إسرائيل” الدولة المتأهبة التي تملي الشروط من خلف الستار.
حتى الجمعية العامة للأمم المتحدة يمكن وضعها في نفس الخانة, فسلوك مبعوثها الدولي لحل الأزمة السورية “استيفان ديمستورا” لا يبتعد عن حدود هذا الإطار, حيث حوّل لقاءات جينيف إلى “مسرحية” ذات حلقات عديدة, وعند نهاية كل حلقة يخرج علينا المبعوث الدولي بنتائج معلّقة وغير واضحة تقوم على أساس التسويف المستقبلي ليس أكثر, فهو اليوم ومع اختتام أعمال جولة التفاوض الخامسة يعدل عن قراره بوضع تراتبية محددة لتلك السلال التي وضعها هو بنفسه لحل الأزمة السورية ليجعلها في خانة التوازي, وهنا نعود للمربع الاول وهو النزول عند رغبة النظام السوري وروسيا في المراوغة بجعل الاولوية “لمحاربة الإرهاب”, ثم أعقب ذلك بترحيل هذه السلال المتوازية إلى جولة سادسة جديدة أو بمعنى آخر إلى حلقة مختلفة من حلقات مسرحيات جينيف.
كل هذه المواقف “المترددة” تغري النظام وروسيا من أجل استمرار الإنتهاكات والجرائم بحق المدنيين السوريين, وتزيد من إصرارهم على متابعة الخطوات العسكرية, فهم حتى اليوم “بريئون” في نظر المجتمع الدولي.
من المؤسف أن نعترف بهذه الحقيقة المرة, حقيقة قبول المجتمع الدولي بالمجرم وتعذيره عن جرائمه, ليس نتيجة لانعدام الوسيلة وإنما لأن هذه الدول اللاعبة هي نفسها متورطة في جرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين في كل من العراق وسورية, فطائرات التحالف الدولي مازالت مستمرة في قصف الاهداف المدنية في كل من الموصل والرقة, فكيف لمن يرتكب الجرائم ان ينقذ الضحية من سياط الجلادين؟!
المركز الصحفي السوري-حازم الحلبي.