غيبت الحرب ومنعكساتها وضيق الأحوال المعيشية في شكل شبه كامل عادات وطقوس كان الدمشقيون يمارسونها لاستقبال شهر رمضان وهم توارثوها عن آبائهم وأجدادهم وطالما تفاخروا بها خلال قرون ماضية.
واعتادت غالبية «أهل الشام» في سنوات ما قبل الحرب، على التحضير لاستقبال رمضان قبل نحو أسبوع من قدومه، عبر تسوق كميات كبيرة من المواد الغذائية والخضروات والعصائر من أسواق كثيرة في دمشق كان يحرص أصحاب محالها على عرض بضائعهم فيها وعلى واجهاتها في شكل مكثف وطريقة مميزة لجذب متسوقين تكتظ بهم تلك الأسواق في شكل لافت إلى درجة إيقاف حركة المركبات الآلية.
اللافت هذا العام، زيادة عدد المحلات المغلقة، حيث خرج من السوق فئة «التجار الصغار لعدم قدرتهم على مجاراة جنون الأسعار»، وفق أحدهم. وقال: «بقى تجار الأزمات الذين يحتكرون البضائع بهدف تعظيم أرباحهم على حساب المواطن الفقير الذي يدفع وحده فاتورة الأزمة وتبعاتها والحصار الاقتصادي»، إضافة إلى الفوضى في الأسعار بسبب عدم سعي الحكومة إلى التدخل.
كما ترافق موعد رمضان مع اشتداد موجة غلاء غير مسبوق، في شكل فاق تحمل قدرة الأسرة على التحمل، ما أدى الى تراجع حركة المتسوقين في الأسواق وكميات المواد المعروضة من الباعة، واستنكف أهالٍ عن عمليات الشراء إلا لما هو ضروري وبكميات قليلة تكاد لا تُذكر قياساً بما كانوا يبتاعونه في سنوات ما قبل الحرب.
أبو عمر (60 سنة)، وهو في مدخل سوق باب سريجة وسط دمشق، بدت الكآبة واليأس عليه، وردد بعصبية: «اتركونا بحالنا…»، لكنه وبعد الإلحاح عليه تذكر مخيم اليرموك جنوب العاصمة، وأسواقه، وشوارعه الفرعية وكيف كانت تعج بالمارة قبل أسبوع من قدوم الشهر الفضيل، وإقبالهم على الشراء في شكل تعجز الكلمات عن وصفه. وقال: «سقى الله أيام زمان. كنت لا تجد موطئ قدم في الشوارع طوال النهار والليل». ويضيف: «انظر إلى الناس… انظر الى ما يحملونه. شي بيقهر».
من جانبه، اشتكى صاحب محل لبيع الألبان والأجبان من ضعف الإقبال على الشراء، وتراجع الكميات التي يشتريها الناس، جراء تراجع الوضع المادي للمواطنين. وقال: «حركة مارة مقبولة، لكن لا يوجد بيع، وإذا أراد أحدهم الشراء، يشتري نصف كيلو أو وقية (200 غرام). أيام (شراء) الكيلو والكيلوين والخمسة راحت. الناس ميتة».
وانعكس تراجع سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي وغلاء الأسعار مع بقاء المرتبات على حالها التي كانت عليها قبل الحرب (الراتب الشهري لموظف الدرجة الأولى 35 ألف ليرة) سلباً على الحياة المعيشية لشريحة كبيرة من المواطنين.
ولم ينعكس تحسن سعر صرف الليرة أمام الدولار خلال الأسبوع من 650 ليرة إلى 470 في السوق السوداء على أسعار المواد. ووصل سعر الكيلو الواحد من السكر عند انخفاض سعر صرف الليرة إلى 650 لنحو 425 ليرة بعدما كان 300 ليرة.
في أحياء دمشق، وخصوصاً العشوائية والقديمة منها، كان حديث الأهالي قبل عشرة أيام -وربما أكثر- من قدوم رمضان يتركز على كيفية إيفاء رمضان حقه من حفاوة الاستقبال، لما له من مكانة خاصة في قلوبهم وتبادل الزيارات في ما بينهم قبل حلوله، نظراً لانشغالهم بالعبادات خلاله، وما أن تثبت رؤية هلاله حتى يبادروا إلى تهنئة بعضهم بعضاً. لكن الوضع حالياً اختلف جذرياً في أغلب الأحياء، وخصوصاً منها التي لجأ إليها نازحون من مناطق ساخنة. وقال «أبو زياد» الذي نزح من غوطة دمشق الشرقية وأستأجر شقة في منطقة الزاهرة القديمة جنوب دمشق، عن معاناته مع أهالي تلك المنطقة جراء المعاملة السيئة التي يعاملون بها النازحين «وكأن النازح أتى من دولة أخرى». وأضاف: «تسلم عليهم لا يردون عليك السلام..! كيف تبارك لهم بالشهر الفضيل؟؟!! ينزعجون منك لأسباب كثيرة حتى ماء لا يريدونك أن تشرب…! عندما يحصل عطل في التيار الكهربائي يتهمونك بأنك السبب». وزاد: «لا أعتقد أنهم يعرفون من رمضان شيئاً».
ورغم اعتماد البعض في سنوات ما قبل الحرب على المنبهات الإلكترونية أو الهواتف للاستيقاظ قبل أذان الإمساك لتناول وجبة السحور، بقي المسحراتي وطبلته وأناشيده الوديعة حاضراً في معظم الأحياء الدمشقية.
لكن ما آلت إليه الأوضاع حالياً، جعلت الحديث عن المسحراتي من «المحظورات»، وفق أبو محمد، أحد سكان حي مساكن برزة شمال دمشق، الذي قال: «من يجرؤ حالياً عن الحديث في هذا الأمر. بالتأكيد سيتهم بأنه إسلامي متشدد ويتم اعتقاله».
ظاهرة أخرى في دمشق تراجعت في شكل كبير هذا العام، وهي التبرعات التي كان يقدمهم الميسورون للمحتاجين. وقالت نورا، وهي أم لأربعة أطفال من مدينة حمص وأفقدتها الحرب في سنتها الثانية زوجها وبيتها وتقطن في شقة قيد الإنشاء في مدينة التل بريف دمشق الشمالي: «في السنتين الماضيتين كان الكثير من أهل الخير يطرقون بابنا في أوقات مختلفة من العام، ويكثر هؤلاء مع اقتراب شهر رمضان، لكن هذا العام نادراً ما يحصل الأمر».
الحياة