الإسراف في أي شيء له عيوبه، حتى في الأشياء المفيدة للصحة، ورغم ذلك نحن نسرف في استعمال التكنولوجيا.
إذا كانت نظرية الاستعمال والإهمال التي تحدث عنها، تشارلز دارون، في كتابه “أصل الأنواع” صحيحة، فإن التحذير من مخاطر فقدان الذاكرة، بسبب الإدمان على استخدام الإنترنت، يعتبر جرس إنذار يجب الانتباه إليه وأخذه مأخذ الجد.
وخلص استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غلوبال ويب إندكس” للأبحاث المتعلقة ببيانات مستخدمي الإنترنت، في 34 دولة، إلى أن مستخدمي الإنترنت يقضون ما معدله ست ساعات ونصف يوميا على الإنترنت.
ولا تزال الدراسات العلمية التي تبحث في حجم التأثير الفعلي للأجهزة الإلكترونية على الصحة البدنية والنفسية، تخطو خطواتها الأولى. لنتذكر كم استغرقت البشرية من زمن لتقول إن استهلاك السكر خطر على الصحة، وكذلك التدخين واستعمال العبوات البلاستيكية.
مخاطر رقمية
الإعلان عن مخاطر تسببها مادة معينة أو عادة معينة يستغرق وقتا طويلا، ليس فقط لأن الأمر يتعلق باختبارات علمية، ولكن هناك دائما اعتبارات اقتصادية حاسمة، إن لم تمنع من الإفصاح عن المخاطر، فهي تقلل من شأنها، أو تختلق الأعذار لتلافي اتخاذ قرار حاسم بشأنها.
وبقدر ما ساهمت التكنولوجيا في تحسين حياة البشر، أساءت إليهم أيضا. إنها “شر” لا بد منه.
ساهم النقل الجوي والبحري والبري، في خلق مشكلة تلوث بيئي يدفع العالم ثمنا لها. ومع ذلك لا يمكن لنا أن نتخيل يوما أننا قادرون على اتخاذ قرار يعيد عقارب الساعة للوراء، ونعود للتنقل بالسفن الشراعية أو على ظهور الدواب.
هناك مخاطر يعرفها الجميع، تتسبب فيها المركبات التي تدخل في تصنيع الأجهزة الإلكترونية، هذه المخاطر يمكن تقييمها، والتعامل معها بوضع قوانين محددة تتعلق بآلية التخلص منها بعد نفاد صلاحيتها.
المخاطر الأشد، هي مخاطر رقمية، لا علاقة لها بأي قطع ملموسة. ومجرد التفكير فيها يثير قلق الخبراء.
تقول شيمي كانغ، طبيبة نفس كندية متخصصة في تأثير الإدمان على الصحة النفسية للأطفال والمراهقين “ربط الكثير من الأطباء في الآونة الأخيرة بين الاكتئاب والقلق وعدم الرضا عن شكل الجسم وبين الإفراط في استخدام الأجهزة
والتقنيات الرقمية، وباتوا يشخصون الإدمان الرقمي كأحد الاضطرابات النفسية”.
إلا أن الأجهزة والتقنيات الرقمية، شأنها شأن الأطعمة، بعضها أشد ضررا أو أكثر نفعا من البعض الآخر. وإذا أردنا أن نتجنب أضرارها ونجني فوائدها، فعلينا أن نفهم أولا كيف تؤثر هذه الأجهزة على أدمغتنا.
تنمّر إلكتروني
ويرى خبراء أن بعض ألعاب الهاتف لا تقل ضررا عن الأطعمة غير الصحية، وينبغي الحد من استخدامها، ولكن أولا يجب أن نعرف كيف يتفاعل الدماغ مع الأجهزة الإلكترونية؟
تقول كانغ إن الدماغ يتفاعل مع الإلكترونيات بآلية تشبه عملية التمثيل الغذائي، إذ يفرز بشكل عام ستة أنواع مختلفة من الكيميائيات العصبية، أي المواد الكيميائية التي تنشط الجهاز العصبي في أجسامنا.
والأجهزة والتقنيات الرقمية الصحية هي أي أجهزة تحث الدماغ على إفراز السيروتونين، أو الإندورفين، أو الأوكسيتوسين.
وتعد تطبيقات التأمل، والتطبيقات الإبداعية، وتطبيقات التواصل التي تساعدنا على إقامة روابط اجتماعية، مجرد أمثلة على التقنيات الصحية. لكن إذا زادت جرعة الدوبامين، الذي يلعب دورا في اكتساب العادات الجديدة، فقد تدخل دائرة الخطر التي قد تقودك إلى الإدمان.
ما يثير مخاوف كانغ هو “المواد الضارة أو المسيئة للآخرين على الإنترنت، التي قد تنشط مراكز المتعة والمكافأة في الدماغ، مثل المقاطع الإباحية، أو التنمر الإلكتروني، أو المراهنة، أو ألعاب الفيديو المصممة على غرار آلات الألعاب بالعملات المعدنية، والتي قد تسبب الإدمان، أو المشاركة في نشر خطاب الكراهية ضد فئة بعينها”.
وتقول كانغ إن استخدامنا للأجهزة الإلكترونية يجب ألا يطغى على احتياجاتنا الإنسانية الأساسية الأخرى، “نحن نحتاج للنوم لثماني أو تسع ساعات يوميا، كما نحتاج لتخصيص ساعتين أو ثلاث ساعات لممارسة الأنشطة البدنية، ونحتاج للخروج في الهواء الطلق والتعرض للضوء الطبيعي. فإذا كان استخدامك للأجهزة الإلكترونية يجعلك تهمل أنشطتك الأساسية الأخرى، فهذا يعد إفراطا في استخدام التكنولوجيا”.
تأثير غوغل
جميعنا يتذكر، كم كان صعبا علينا أن نسترجع معلومة جغرافية أو تاريخية تتعلق ببلد معين، أو أن نتذكر في أي عام استقل فيه بلد ما، قبل عقد من الزمان. الآن وبفضل غوغل، يمكن الوصول إلى المعلومة بثوان. بل يمكن الذهاب أكثر مع تطبيق مثل سيري، كل ما تحتاجه هو أن تقول “هاي سيري في أي عام سقط جدار برلين؟”، ليقفز الجواب أمامك مكتوبا على شاشة هاتفك الذكي.
اسأل أي سؤال، وسيري ستقدم لك الجواب، بعد أن تفتش عنه، فتوفر عليك الجهد والوقت.
أليس هذا أمرا رائعا.. فما الضرر في ذلك؟
هل تتذكّر متى كانت آخر مرة حفظت فيها رقم هاتف أحد أفراد أسرتك أو أصدقائك؟ ستقول ما حاجتي إلى ذلك، طالما لدي هاتف يحفظ الأرقام، يمكن اللجوء إليه في كل وقت. وهل نسيتم سيري؟
هاي سيري اتصلي برقم المنزل، هذا كل ما عليكم فعله.
وعلى الرغم من أنّ سهولة الحصول على المعلومات قد حسّنت من حياتنا بطرق عديدة، إلا أنها تعمل أيضًا على تغيير كيفية عمل الدماغ ومعالجته، ما يجعل الباحثين يشككون في تلك التكنولوجيا وفي ما إذا كانت التغييرات التي تحدثها تسير نحو الأفضل أو الأسوأ.
بقدر ما ساهمت التكنولوجيا في تحسين حياة البشر أساءت إليهم أيضا، إنها “شر” لا بد منه
رغم كل الفوائد التي تصب في صالح سرعة الوصول إلى المعلومة، لكن أضرارا صحية ناجمة عن الاستخدام المفرط للإنترنت قد تدمر بنية دماغنا، ويحذر خبراء من كثرة المعلومات التي توفرها التكنولوجيا الحديثة على صحتنا.
هناك بين الخبراء اليوم من يؤكد أنّ الاعتماد على الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعيّ لاسترجاع المعلومات وحفظ الذكريات المختلفة، تمامًا كما اعتمادنا على خرائط غوغل وتقنيات تحديد الموقع، يقلل من احتمالية تذكّر تلك المعلومات ويسهّل ولوجها لدائرة النسيان في الدماغ، فيما بات يُعرف بمصطلح “تأثير غوغل”.
ونظرًا لأنّ ذاكرة الإنسان تنشط من خلال تنشيط الخلايا العصبية التي تحمل المعلومات التي نودّ تذكّرها، ما يعني زيادة نشاط تلك الخلايا واتصالها بغيرها كلما تمّ تحفيزها، أي أنّ محاولة تذكّر معلومة قديمة تسهّل الحصول عليها في المستقبل.
كان الأشخاص في السابق قادرين على حفظ كميات كبيرة من المعلومات، مثل حفظ كتاب كامل على ظهر قلب. ولكن التكنولوجيا أنهت الحاجة إلى القيام بذلك. فأنت حين تعرف أن غوغل أو هاتفك الذكي قادر على حفظ معلومة ما بالنيابة عنك، يكون من المستبعد أن تحفظها في ذاكرتك، كما أظهرت دراسات.
ويقول باحثون إن الإنترنت أشبه بالذاكرة الصلبة بالنسبة لدماغ الإنسان بعد أن أصبحنا نحيل كمية متزايدة من المعلومات إليها.
أمراض مهنية
لكن، ومع توفر المزيد من المعلومات عبر الهواتف الذكية والأجهزة الأخرى، أصبحنا أكثر اعتمادًا على الرجوع إليها في حياتنا اليومية، ما يؤدي إلى انخفاض نشاط الدماغ وخلاياه العصبية شيئًا فشيئًا مع مرور الوقت، وهذا يفسّر تماما سرعة نسياننا لمعلومة كنّا قد حصلنا عليها من الإنترنت سابقًا.
وتقول باتريشيا غوتينينتاغ، المختصة بالأمراض المهنية، إن التكنولوجيا الحديثة هي أحد الأسباب الرئيسية لهذا النسيان بين الشباب. وأوضحت غوتينينتاغ أن هذا الجيل تعلَّم أداء عدة وظائف في وقت واحد معتمدا على التكنولوجيا، واقترن ذلك في أحيان كثيرة بقلة النوم، وهذا من شأنه أن يسفر عن ارتفاع مستوى النسيان، حيث أظهرت دراسة أن احتمالات أن ينسى الشباب، الذين نشأوا في عصر الإنترنت، أي يوم من الأسبوع نحن فيه، أو أين تركوا مفاتيحهم، أكبر منها بين الأشخاص الذين تجاوزوا سن الخامسة وخمسين.
وإلى أن يهدأ الجدل، ينصح الخبراء مستخدمي الإنترنت، بالابتعاد، من حين لآخر، عن غوغل وسيري، لوقف استنزاف قدرات الدماغ، وتوظيف ملكاتهم الفكرية وحمايتها من الضمور الذي يسببه الاعتماد في كل شيء على الإنترنت.
نقلا عن صحيفة العرب