يبدو أن حادثة إسقاط الطائرة الحربية الروسية لم تكن سوى حجة لدى موسكو لحرمان مواطنيها من زيارة تركيا، وتوجيههم نحو بلدان أقل تكلفة حفاظا على مدخرات روسيا التي تتقلص شيئا فشيئا مع تدهور أسعار النفط، وتضاعف فاتورة التدخل العسكري في سوريا، واضمحلال قوة الروبل الروسي، بحيث صار السائح مثلاً بحاجة إلى كومة من الروبلات ليقضي بضعة أيام في تركيا.
وقد يعتبر البعض ما تقوله “زمان الوصل” في مقدمة هذا التقرير نوعا من التمنيات أو التنجيم السياسي والاقتصادي، لكن خطوات موسكو الجديدة في مجال تحديد الوجهات السياحية تثبت أن لروسيا أغراضا أخرى من حرمان مواطنيها من زيارة تركيا، فضلا عن الغرض الانتقامي.
فقد أزالت روسيا يوم السبت، كلاً من الهند وولاية “غوا” الهندية من قائمة الوجهات السياحية الموصى بزيارتها، لتضعهما على القائمة السوداء أسوة بكل من مصر وتركيا، رغم أن الهند لم تشهد أي حوادث “إرهابية”، حسب تصنيف موسكو، ولم تسقط فيها طائرة مدنية كما في مصر (أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي)، ولا أسقطت فيها طائرة عسكرية كما في تركيا (الأسبوع الفائت).
ومع حذف الهند وولاية “غوا” بالذات عن قوائم السفر المسموح للروس بزيارتها، تقلصت الوجهات الموصى بها حسب التعليمات واللوائح الرسمية، لتشمل بلدان من قبيل فيتنام، الصين، كوبا.
ولفهم ماذا تعني “غوا” الهندية للسائح الروسي، يكفي أن نعلم أن الروس يشكلون ما يناهز نصف نسبة السياح الذين يتوافدون على الولاية من مختلف أنحاء العالم، وأن هذه الولاية شهدت توافد ربع مليون روسي عيلها في سنة 2103، رغم أن مساحة “غوا” لاتزيد كثير عن 3700 كم مربع، أي إن نسبة مساحة الولاية بالكاد تعادل 0.11% من مساحة الهند الإجمالية.
“غوا” التي تقع غرب الهند، وتطل على بحر العرب بشواطئ قل نظيرها، ومناظر طبيعية خلابة، يسهم السياح الروس بقدر كبير من اقتصادها الذي ازدهر، وجعل دخل الهندي في هذه الولاية أعلى من نظيره في بقية الولايات بحوالي ضعفين ونصف، وهذا ما جعل أسعار الخدمات ترتفع في الولاية بشكل ملحوظ قياسا إلى عموم الهند المعروفة برخصها النسبي.
ومع اعتراف الروس بعدم وجود “حوداث إرهابية” في الهند وولاية “غوا”، فإنهم لم يعدلوا عن إضافتهما للائحة السوداء، التي يبدو أن لوضعها أهدافا سياسية واقتصادية تتجاوز الأحداث الراهنة، وترتبط بعزم موسكو على تقليص سفر مواطنيها إلى الخارج، ودفعهم لإنفاق ما قد يدخرون داخل روسيا، أملا في دعم اقتصادها المنهك تحت ضربات تهاوي الروبل وتدهور أسعار النفط، فضلا عن العقوبات الاقتصادية التي تلاحقها بسبب تدخلها في أوكرانيا.
هذا التوجه الرسمي الروسي، اعترف به مركز المعلومات الروسي بشكل غير مباشر، عندما قال إن ضعف قدرة الروس على تحمل تكاليف السياحة في تلك الأماكن جعلهم يبحثون عن وجهات سفر أقل كلفة لاسيما في آسيا، والحقيقة الكامنة في هذا التصريح أن السياح روس لم يحددوا خيارات سفرهم، بل إن نظامهم المحكوم بقبضة بوتين هو الذي أجبرهم عليها، تارة بحجة طائرة مدنية، وأخرى بحجة طائرة عسكرية، وثالثة بلا حجة مقنعة كما فعل بالنسبة للهند وولاية “غوا”.
وبعكس ما يتخيل البعض من أن روسيا ستكون الطرف الرابح في منع السفر إلى مصر وتركيا وغيرها من البلدان، فإن المؤشرات تدل على انهيار جزئي في قطاع شركات السياحة والنقل المرتبطة به في عموم روسيا، عطفا على إغلاق وجهات سياحة رئيسة بوجه الروس، علما أن عدد السياح الروس إلى كل من تركيا ومصر لوحدهما يتخطى 7 ملايين سائح، منها حوالي 4.2 مليون يتجهون إلى تركيا.
وتوضح قراءة مثل هذه الأرقام مدى الخسارة التي ستلحق مكاتب السياحة وشركات الطيران الخاصة والعامة في روسيا من انسحاب 7 ملايين سائح ولو مؤقتا، ما يعني أن الخسارة لن تقع على الجانب التركي والمصري فقط.
وأخيرا، فقد بدأت روسيا تحس بوطأة العبء الاقتصادي لمصاريف سياحها في الخارج (حوالي 28 مليون سائح) منذ عام 2014، وهو العام الذي تزامن فيه هبوط الروبل مع تدهور الإيرادات المتأتية عن النفط، علما أن روسيا هي أكبر منتج للنفط على مستوى العالم.
ويبدو أن موسكو لم تعد قادرة على تحمل المزيد من أعباء نفقات سياحها، بل إن هناك من يقول إن الروس قد يكونون مقبلين على أيام حظر سفر تشبه أيام الاتحاد السوفياتي، ولكن هذه المرة باستخدام ذرائع وحجج، يبدو للمدقق فيها أنها أدوات للتغطية على فشل اقتصادي كبير، أكثر من كونها أسباباً حقيقة، أو ردات فعل واقعية.
المصدر: زمان الوصل