ارتبط الغزو، في وعينا وتاريخنا، بدخول قوى أجنبية بالقوة، أو سلمياً، إلى دولة، أو بلد، لتفرض مصالحها أو سياساتها أو تحالفاتها… وقد عرف القرنان، التاسع عشر والعشرون، تقنية معدلة للغزو الخارجي، قامت على تحالف أو انحياز دولة أو دول أجنبية إلى قوة داخلية، تصارع خصوماً أو أعداء، ودخولها إلى بلادها، لتعزز صفوفها، وتجعلها تتولى العبء الأكبر من القتال ضد عدوهما المشترك، فتحقن دماء جنودها، وتقلص مشاركتهم المباشرة في القتال أو الحرب. هذه التقنية عرفت باسم البلد الذي طبقت فيه، فسميت “الفتنمة” في فيتنام، و”العرقنة “في العراق، و”اللبننة” في لبنان …إلخ.
واليوم، يقع تحوّل لا يستهان به في تقنيات الغزو من الداخل، نرى علاماته في أماكن من وطننا العربي: تتحالف إيران مع قوى داخلية في البلد المعني، تشاركها توجهاتها المذهبية والدينية، فتتولى قوة كبرى إقليمية تنظيمها عسكرياً، وتسليحها وتمويلها، والإنفاق على حاملها الشعبي، طوال مدى زمني متوسط إلى طويل، لتخترق، بواسطتها، بلدانها أمنياً وسياسياً، وتعطل دولها بطرقٍ تمكّنها من التحكم بخياراتها وأحزابها، وتغيير فهمها مصالحها وتحييد خصومها وشلهم. والنتيجة قيام القوى المحلية، كحزب الله والحوثيين، بدور يقوم به جيش طهران، لو قررت قيادته غزو البلدان المعنية واحتلالها وتنصيب حكومات دمى فيها. بذلك، لن تحتاج إيران ممارسة غزو مباشر من الخارج، فلديها جيوش في البلدان الأخرى تنشط، بالوكالة عنها، وكأنها فصيل من قواتها المسلحة، يرابط خارج حدودها، يدين بالولاء المذهبي الذي يدين به حرسها الثوري وجيشها، ويعتبرون إيران وطنهم الأم المقدس الذي يقوده معصومون، ومرجعيتهم الدينية والدنيوية، التي يلزمهم واجبهم الشرعي بخدمة خياراته الاستراتيجية، والتعامل معها، خيارات ملهمة وربانية.
يقوم جديد الغزو من الداخل على إحداث أو استثمار شرخ مذهبي في المجتمعات، ينتج ضرباً من الولاء لإيران، يجعل منها وطناً أصلياً لأتباعها، يسمو، في مرتبته ودوره، على ولائهم لجماعتهم المحلية ووطنها، ويؤسس لعلاقة مع إيران أقوى من أي علاقة داخلية كانت لهم، بما في ذلك مع الدولة والمجتمع المحليين، كما ينتج طرقاً في الفهم والوعي خارجية المركز، تمييزية المضمون، تفكّك الأواصر الوطنية والتاريخية الضرورية، لاستمرار الدولة والشعب القائمين، وتضع أحجار الأساس لدولةٍ ضمنية، لها كل ما للدول من مؤسسات إدارية، لكن جيشها يجب أن يتوقف، حتماً، على جيش وطنها، الذي يصير، أكثر فأكثر، افتراضياً ووهمياً، بينما يغدو الوطن الأم الروحي فوق أي نقد أو حوار، وتنتج العلاقة معه شرعية تسوّغ ملاحقة وتشويه سمعة من يتمسكون بوطنهم من أبنائه.
لسنا هنا حيال تدخل خارجي محدود زمانياً ومكانياً، لصالح فريق يقاتل فريقاً داخلياً آخر، بل حيال غزو متعدد المجالات ومفتوح زمنياً، يقوم على دمج هيكلي، أيديولوجي وشمولي، لقطاعٍ من الداخل الوطني، في نسيج خارجي أكبر، أساسه تماثل مذهبي، يجعل الخارج مرجعية مقدسة لدى تابعيه الداخليين، المنظمين بطرقٍ تمكّنهم من تطويع وطنهم ومجتمعهم، وشل مقاومتهما وإلحاقهما بالوطن المذهبي الأم، وتحقيق وظائف يؤديها الغازي الداخلي، تتخطى تجاوزاتها، الحقيقية والمحتملة (قبل الثورة، كانت حرب النظام على الشعب السوري إحدى التجاوزات المحتملة) ما يقوم به أي غاز أجنبي يقتحم البلد، بيد أنه يبقى برّانياً ومعادياً، في نظر شعبه.
هذا الغزو من الداخل يرجح أن يبقى مرشحاً للتصاعد في بلداننا. ولن يزول، ولن يزول خطره بغير اندماج مجتمعي، يساوي بين المواطنين في الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والمواطنة، يقوّي الدولة الوطنية التي لن تتمكن من ردع الغزو الداخلي، وقطع علاقاته مع منابعه وموارده الخارجية، إذا لم تطبق ديمقراطية الهوية والوظائف منظومة قيمية حرة وإنسانية، تقوّض منظومة الغزاة، المذهبية بأرديتها الثورية والوطنية التي توضع فوق أية مساءلة، لكونها الجزء المعنوي من عنف الغزاة المادي.
ميشيل كيلو – العربي الجديد