عاد العم الضال مكسوراً ليكون النصر الأكبر من حصة ابن أخيه الذي بات “يترفع” عن معارضة الآخرين له ويسمح لهم بدخول بلدهم.
يروي أحد أمثال الإنجيل حكاية الابن الضال الذي يطالب والده بحصته من الميراث ويرحل بعيداً حيث يعيش حياة بذخ. يفقد الابن كلّ ما يملك في النهاية، ويعود إلى والده الذي يلقاه مهللاً ويذبح له العجل المسمن، ما يثير حفيظة الابن الأكبر، الذي بقي بقرب والده، مطيعاً له، لكنه لم يفكر بذبح ولو جدي له يتقاسمه مع الأصدقاء، ليرد الوالد أن ابنه الكبير معه على الدوام، أما الابن الضال فكان ميتاً وعاش وضالاً فوجِد. تبدو قصة رفعت الأسد عمّ الرئيس السوري نسخة حديثة عن حكاية الابن الضال، لكن ما فعله رفعت أكثر من مجرد ولد ضل الطريق وعاد نادماً، إنها حكاية العمّ المعارض وابن أخيه الديكتاتور، حكاية جزارين تنافسا على السلطة.
أسد دمشق يسامح أسد فرنسا
استفاق السوريون على خبر عودة رفعت الأسد، الاسم الذي يتحاشى كثيرون ذكره، فهو وصمة عار في تاريخ عائلة الأسد، كاد يطيح بنظام أخيه حافظ عبر انقلاب فاشل، غادر على إثره سوريا، ومعه حصته من أموال السوريين إثر اتفاق بينه وبين أخيه ليتجه إلى فرنسا حيث عاش هو وزوجاته الثلاث وأبناؤه حياة بذخ ورفاهية، بحسب صحف عدة، منها “لوموند” و”لوفيغارو” الفرنسيتين، ليعلن معارضته ابن أخيه مع بداية الثورة السوريّة وهذا ما أعاد اسمه إلى الواجهة. لاحقته مشكلات قانونية إلى أن أثبت القضاء الفرنسي تورطه في تبييض أموال واختلاس أموال السوريين، ليحكم بالسجن أربع سنوات في فرنسا، إلّا أنه وبين ليلة وضحاها وجد السوريون رفعت بينهم بمباركة من الرئيس السوري بعد نحو 36 عاماً من الغياب! وكانت بدأت مؤشرات هذه العودة مع مشاركة رفعت في الانتخابات الرئاسية في أيار/ مايو الماضي وهو ما كان مستهجناً ومستغرباً ويشي بنوع من التقارب بين العمّ وابن شقيقه وكسر الجفاء والقطيعة الطويلة.
ونشرت جريدة “الوطن” الرسمية الخبر بعنوان: “منعاً لسجنه في فرنسا… الرئيس الأسد يترفع عمّا فعله وقاله رفعت الأسد ويسمح له بالعودة إلى سورية”، يعكس العنوان ديكتاتورية هذا النظام المطلقة، فبدايةً يقول: “منعاً لسجنه في فرنسا”: فلم يقل الخبر: لأن رفعت الأسد بريء، معلناً صراحةً أن الأخير مختلسٌ لأموال السوريين، على رغم ذلك سينقذ أسد دمشق أسد فرنسا متجاهلاً القضاء والعدالة، أمّا “يترفع عما فعله وقاله” فتعني أن النظام سيتجاهل معارضة رفعت له، على رغم محاولة إظهار نفسه كنظام يتقبل معارضيه أمام المجتمع الدولي إلّا أن عودة رفعت إلى أرض الوطن تحتاج ترفعاً من جانب الرئيس السوري ليصفح عنه، في الحقيقة لم يسمع السوريون بمعارض حصل على المسامحة، سواه.
العدالة السورية المفقودة
عودة رفعت هي إحدى أشكال تغييب العدالة وترسيخ الظلم أكثر، فبينما ينتظر الملايين حساب الرئيس السوري بعد عشر سنوات من جرائم الحرب يعود عمه، وهو ديكتاتور آخر قتل الآلاف في ثمانينات القرن الماضي في مجزرة حماة، وبين جريمة قديمة وأخرى حديثة يضيع حق السوريين، ليعلن النظام بكل سذاجة أن هذه العودة ستجرد رفعت من أي دور سياسي أو اجتماعي، هل سيصبح رفعت مثل جميع السوريين هنا، بلا أي رأي سياسي، هل سيصبح مثلنا نحن الذين يحرَّمُ عليهم خوض السياسة؟ يسأل البعض: هل يعني ذلك أن رفعت سيمنح البطاقة الذكية وينتظر مثل الجميع دوره أمام فرن الخبز؟
كيف سيصدق السوريون العدالة بعد؟ وعودة رفعت جعلت الأمل بالديموقراطية أبعد، فالعائلة لم تتخلَّ عن ابنها الضال لتتخلى عن الحكم! إنها العدالة المسحوقة بمباركة أوروبية. تبدو عودة رفعت المشبوهة وكأنها تحمل اتفاقاً سياسياً، فخروجه من فرنسا لن يتم من دون موافقة الحكومة الفرنسية ودخوله إلى سوريا يعني اتفاقاً بين العائلة وهذا لا يعني فقط “الدم ما بصير مي” كما يقول المثل السوريّ، فبحسب مصادر كثيرة، كان رفعت بدأ ببيع أملاكه في فرنسا وإسبانيا منذ أشهر وهذا يعني منح ابن أخيه تعويضاً مادياً عن كلّ إساءة وجهها في حقه. هذه العودة هي تأكيد لرفض عائلة الأسد أي نوع من المحاسبة أو الإذلال لأيّ من أفرادها مهما ارتكب من أخطاء بحقها، الأخطاء الداخلية قابلة للصفح بما أن اسم العائلة معرض للسجن أو المحاسبة الدولية. في النهاية تنجح السياسة والمال في تسوية كلّ الخلافات ويبقى الدم السوري خارج الحسابات الدولية.
سوريون يرحبون بسارقهم
عودة العمّ الضال ترافقت وموجة سخرية من السوريين الذين يواصل النظام إدهاشهم، فشبهوا عودة رفعت الأسد بعودة أبو عصام في المسلسل السوري الشهير “باب الحارة”، والذي بعد موته، أعاده مخرج العمل إلى الحياة في جزء لاحق.
مخرج قصتنا اليوم هو بشار الأسد الذي أعاد عمّه إلى الأرض السورية، وإذا كان مخرج “باب الحارة” لا يلتزم بقوانين الطبيعة من حياة وموت فمخرجنا الديكتاتور كان أكثر إبداعاً في جعل عودة العم تأكيداً لسلطته المطلقة وعلاقاته الواسعة في كلّ من فرنسا وإسبانيا وروسيا، والتي أعادت العم سالماً بعد نحو الأربعين عاماً.
استقبل سوريو الداخل المعارضون خبر عودة العم بالسخرية، في كل الأحوال هم غير قادرين على أكثر من ذلك، وكيف تواجه الديكتاتورية سوى بالسخرية! ليرددوا: “لا تصالح” ناسبين الحدث إلى قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل لكن شتان بين الأسد القاتل والفلسطيني المدافع عن أرضه.
على الجانب الآخر خرج المطبلون مرحبين بعودة الأسد الضال ومهللين لأحد أعمدة البلد، ليقف المتفرج للحظة سائلاً: “ما الذي يحدث في هذه البلاد؟”، كيف يهلل أحدهم لسارقه؟ أتكفي مباركة من رئيسه؟ ما الذي يجعل أحدهم صالحاً أم مخطئاً بين شريحة المؤيدين أم أن أي قرار للأسد سيكون صائباً حتى لو كان ضد المنطق! فحال الواقع يقول إن الأسد لا يعبأ لا بالشعب ولا بالقانون، فهو فوق أي قرار وهو يحرّك البلد بحركة من إصبعه ولا علاقة للقانون أو الدستور بما يحدث!
على الجانب الآخر هناك السوريون (الابن الأكبر) المطيعون لرئيسهم الذين لا يستطيعون معارضة قراراته ويعرفون حق المعرفة أن ما فعله رئيسهم هو خيانة بحقهم، هم الأبناء الصالحون، الذين يتحملون الجوع وانقطاع الكهرباء والوقود، لكن رئيسهم غدر بهم وجلب سارقهم إلى عقر دارهم، اكتفى هؤلاء بالدعاء له ولرحمته اللامتناهية، متجاهلين حجم الحدث.
عاد العم الضال مكسوراً ليكون النصر الأكبر من حصة ابن أخيه الذي بات “يترفع” عن معارضة الآخرين له ويسمح لهم بدخول بلدهم. إذاً وداعاً للقانون والعدالة، وداعاً لكل أمل في محاسبة القاتل، وبينما عاد الابن الضال خالي الوفاض في الحكاية، يعود العم الضال في الحكاية السورية وهو يحمل في جيبه الكثير، ما يكفي ليصفح ابن أخيه عنه.
المركز الصفي السوري
عين على الواقع
نقلا عن درج