تتحدث سيناريوات متعددة عن احتمال عودة الاقتتال إلى سوريا. وبمعزل عن صحة هذه الأخبار أو عدمها، تحمل الأرض السورية ولأسباب كثيرة بذور عودة الحرب إليها. ولعل أبرز هذه الأسباب هو أن العمليات الحربية توقفت بمعظمها بعد أن تمكن النظام بدعم روسي وإيراني قوي من التغلب على المعارضات المشتتة والمنقسمة من دون أن يترك مساحة ولو ضيقة لتسوية أو تفاهمات تلبّي نزراً مقبولاً أو يسيراً من المطالب الشعبية التي أشعلت نار الانتفاضة سنة 2011، وما الجمود الذي يصيب أعمال اللجنة الدستورية في جنيف سوى خير دليل على ما نقول.وفق جريدة الشرق الأوسط
إضافة إلى انسداد الأفق السياسي هذا، يتواصل تردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وسط غياب فرصة محتملة لإطلاق ورشة إعادة الإعمار أو لجذب استثمارات تُنعش اقتصاد البلد المدمَّر والمقسم إلى مناطق نفوذ لقوى دولية وإقليمية في شماله وجنوبه وشرقه وغربه.
إضافةً إلى الأسباب الداخلية البحتة والتي قد لا تكون كافية وحدها لاندلاع انتفاضة جديدة بعد أن أُنهك الشعب السوري مدة إحدى عشرة سنة وعاش نصفه نزوحاً داخلياً وخارجياً، تبرز عوامل إقليمية يصعب استبعاد تأثيراتها على الداخل السوري.
بعد أن كانت المنطقة بعامة تعيش أجواء تكاد تهيئ لانفراجات تخفف من حرارة النزاعات والتشنجات، حصلت تطورات دولية وإقليمية قلبت الوضع رأساً على عقب، أخطرها الحرب في أوكرانيا وما أحدثته من توتر غير مسبوق بين روسيا من جهة والولايات المتحدة والغرب بعامة من جهة أخرى، لن ينجو من تداعياتها الاستقرار السياسي والاقتصادي في الكثير من المناطق، لا سيما تلك التي تشهد نزاعات وحروباً. ولعل منطقة الشرق الأوسط تتصدر لائحة هذه المناطق، وهي التي تعيش أصلاً على جمر ترقب نتائج مفاوضات فيينا لعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي مع إيران. ويبدو أن التعثر الذي وسم مسار هذه المفاوضات منذ بداياتها قد يصل بها إلى حائط مسدود، خصوصاً بعد أن أقدمت إيران الأسبوع الفائت على وقف عمل 27 كاميرا مراقبة مخصصة لقياس مستوى التخصيب في منشآتها النووية، في خطوة تصعيدية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأبلغت الوكالة في السادس من يونيو (حزيران) الجاري عزمها تركيب مجموعتين جديدتين من أجهزة طرد مركزي في منشأة «نطنز». تحركات طهران هذه دفعت بمدير الوكالة الأممية رافائيل غروسي إلى القول إن فرص التوصل إلى حل نووي مع إيران باتت «محدودة جداً»، مؤكداً أن حصول إيران على المواد الكافية لصناعة سلاح نووي «لن يستغرق إلا بضعة أسابيع»، في حال استمرت في تطوير برنامجها. ولعل الأسابيع الأولى من يوليو (تموز) المقبل ستكون حاسمة سلباً أو إيجاباً.
ويتردد في هذا السياق أن تأخير جولة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة حتى شهر يوليو هو لانتظار هذه الفسحة الزمنية القصيرة وجلاء مصير المفاوضات قبل قدومه إليها. فإذا كانت إيجابية، ستهدف الجولة إلى طمأنة الحلفاء وأولهم إسرائيل ودول الخليج العربي وتقديم كل الضمانات المتاحة التي من شأنها أن تبدد بعضاً من مخاوفهم جراء تداعيات رفع العقوبات عن طهران. أما إذا استمر التعثر، فستكون الزيارة بهدف تحصين الحلفاء من ردود الفعل الإيرانية المحتملة والمتوقعة عبر ميليشياتها وأدواتها للضغط على واشنطن وحلفائها، لا سيما في سوريا ولبنان والعراق. ولا يغيب عن البال الهدف الأميركي الآخر، وهو تدعيم العلاقات المتردية مع عدد من دول المنطقة ومن ضمنها إسرائيل والسعودية من خلال إنشاء إطار لتحالفات إقليمية بغطاء أميركي واضح وملموس يعزز قدرات واشنطن والغرب بعامة في المواجهة الخطيرة مع موسكو. وليس طرح مشروع قانون في الكونغرس الأميركي تحت عنوان «ردع الأعداء وتعزيز الدفاعات» الداعي إلى دمج دفاعات دول المنطقة للتصدي للاعتداءات الإيرانية من خارج هذا السياق.
بالعودة إلى موضوعنا، وهو سوريا وأحوالها، من الواضح أنها في قلب هذا الصراع وهذه المتغيرات الدولية والإقليمية كونها شبه محتلة من خمس دول منخرطة كلياً أو جزئياً في هذه التجاذبات، وهي روسيا وأميركا وإيران وتركيا براً، وإسرائيل من الجو وفي الجنوب. ثمة وجهات نظر عدة حول احتمالات تأثر سوريا بهذه التطورات، منها من يقول إن موسكو قد تسعى للضغط على إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة عبر سوريا بغية توريط تل أبيب في عمليات عسكرية ضد أهداف إيرانية قد تتوسع بما قد يؤدي إلى حرب إقليمية لا تريدها واشنطن ولا تل أبيب في هذه الأوقات الدولية العصيبة. وينبغي الانتباه إلى تهديد الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله الواضح يوم الخميس الفائت بقدرته على منع إسرائيل من البدء في عمليات استخراج الغاز عبر الباخرة اليونانية.
وهناك وجهة نظر معاكسة ترى أن الضغوط الغربية لا بد أن تستخدم الساحة السورية الخصبة لإحراج موسكو وإشغالها من جهة، ولتصفية حسابات إسرائيلية وأميركية مع إيران ومن ضمنها محاولة تقليص دورها وإبعادها عن نظام الأسد لحثه على العودة إلى العرب. وجهة النظر هذه مستبعدة لأنها لا تأخذ في الاعتبار تنامي النفوذ الإيراني وسط معلومات عن تراجع الحضور والنفوذ الروسي وتصاعد دور تركيا واحتمال كبير بخسارة النظام الشمال السوري إذا قُدر للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إقامة المنطقة الآمنة على طول الحدود وبعمق 30 كلم.
إضافة إلى كل ذلك، تظهر ملامح جدية لتوترات من نوع مختلف مع الجار الأردني في الجنوب، حيث يُحكى عن حشود عسكرية أردنية أعقبت ما وصفه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بـ«حرب المخدرات» على حدود بلاده مع سوريا وراءها أطراف وميليشيات حليفة لإيران منها «حزب الله» اللبناني والفرقة الرابعة في الجيش السوري بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، تبدأ من البقاع في لبنان إلى بادية حمص وإلى جنوب سوريا. يرى الأردن أن هذه المسألة باتت تتجاوز المخدرات إلى الأسلحة وغيرها من الأنشطة المخرِّبة التي تهدد أمن الأردن. وسبق للعاهل الأردني أن حذّر من الفراغ الذي سوف تتركه روسيا جراء الحرب في أوكرانيا والذي قد تملأه ميليشيات تابعة لإيران. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى انهيار حالة التقارب السوري الأردني ومشروع نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان، ربما بضغط أميركي وبحجة «قانون قيصر».
الأسباب كثيرة والأهداف مختلفة وراء إمكانية عودة الاقتتال إلى سوريا، وتبدأ بالضغط على الأسد لتصويب سلوكه والتخلي عن إيران وإبعادها عن الحدود مع إسرائيل، إلى إشغال موسكو وإنهاكها وحلفائها في سوريا، لا سيما إيران وتطويق ممارساتها وأدوارها المتمادية.
عودة الحرب ليست حتمية إنما غير مستبعدة، وتبقى نتائجها غير مضمونة ومحفوفة بمخاطر جمة ومقلقة. ليس من السهل إنهاك إيران من دون مخاطر الانزلاق إلى نزاع إقليمي غير مرغوب، ومحاولة اختراق العلاقة بين نظام الأسد وإيران صعبة ومعقدة لتجذرها تاريخياً منذ زمن حافظ الأسد الذي وقف بوجه العرب ودعم إيران في حربها مع العراق طيلة ثماني سنوات.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع