بدت أزمة قطع العلاقات مع دولة قطر كاشفة ومفندة لعدد من المفاهيم والانطباعات الخاطئة فيما يتعلق بالخليج العربي وبقضايا المنطقة عموما، ومن ضمنها مصطلح “المحور” أو “التحالف” التركي – السعودي الذي راج كثيراً، لعدة أسباب.
لقد أتى العدالة والتنمية بعد عشرات السنين من إدارة الظهر للمنطقة العربية، فأعاد بعض التوازن لسياسة تركيا الخارجية منفتحاً على مناطق جديدة في مقدمتها الشرق الأوسط (محيطه العربي)، وتمتع بعلاقات واسعة وجيدة مع محوري العالم العربي في حينه، الممانعة والاعتدال.
بيد أن الثورات ثم الثورات المضادة أدخلت تركيا في دائرة الاستقطاب الأمر الذي أحاجها – إضافة لعوامل أخرى كثيرة – إلى البحث عن بدائل وشراكات في الإقليم. كانت البداية في مقاربة ثلاثية تجمع تركيا ومصر وإيران كـ”مثلث” أكبر للمنطقة، ثم اتضح عدم واقعيتها مع اختلاف التوجهات والمصالح، ثم مع مصر بعد الثورة والتي رأى وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو أنهما يمكن أن تصبح مع بلاده “محوراً للديمقراطية”.
مع الانقلاب في مصر وتراجع حالة الثورات العربية قوّت أنقرة علاقاتها بشكل ملحوظ مع الدوحة، التي وافقتها في نظرتها لمعظم ملفات المنطقة وسياساتها إزاءها ورأت فيها بوابة مقبولة للعالم العربي (إعلامياً وقوةً ناعمة) بعد أن فقدت البوابة السورية (برياً واقتصادياً). لكن إمكانات قطر السياسية والعسكرية لم تكن كافية لتركيا، فاتجهت أنظار الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية كاتجاه تكاملي.
كانت الرياض بعد أزمات المنطقة المتعددة والمتكررة (العراق وسوريا ثم مصر) قد تسيّدت القرار الرسمي العربي وقادت مقطورة العمل العربي المشترك وتسعى لقيادة العالم الإسلامي، وتمتلك إمكانات اقتصادية ضخمة وإعلامية ممتدة وعسكرية مقبولة، فضلاً عن مكانتها بين الدول الإسلامية باعتبارها حاضنة لمكة والمدينة. الأهم من كل ذلك أن أنقرة والرياض أحاطت بهما نفس الهواجس والمخاطر والمهددات، من التمدد الإيراني إلى تخلخل منظومة حلفاء واشنطن في المنطقة، وقرّبت الأزمة السورية بين رؤيتيهما إلى حد ما.
وقد تحسنت العلاقات بين البلدين كثيراً، بناء على رغبتيهما – وتركيا في الأساس – في جسر الهوة وتقريب المسافات والتعاون في ملفات المنطقة. كانت وفاة الملك عبد الله الفرصة التي تلقفها الرئيس التركي ليقطع زيارة خارجية له ويشارك في الجنازة دون دعوة خاصة موجهة له كما راج في حينه. وبنى الطرفان على الزيارة التي قام بها الملك سلمان إلى تركيا في 2013 حين كان ولياً للعهد، حتى وصلا في 2016 إلى إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجي بينهما.
وعلى هامش هذا التعاون المستمر والعلاقات المتنامية بين الطرفين، انتشرت كتابات كثيرة تبشّر بما أسمته “المحور” أو “التحالف” التركي – السعودي أو “الحلف السني” أحياناً أخرى، مغفلة ما بين البلدين من أزمة ثقة لم تحلَّ تماماً رغم كل ذلك التقارب.
أسباب هذه الفجوة – الجفوة بين البلدين متعددة لكنها تعود في أصلها إلى أربعة سياقات رئيسة، أولها الخلفية التاريخية المعقدة والسلبية في غالبها، وثانيها الاختلاف البيّن بين “نموذجَيْ” الدين والحكم التي يقدمها كل منهما، وثالثها تعارض اتجاهات السياسة الخارجية لكل منهما، خصوصا ما يتعلق بالموقف من الثورات والعلاقة مع الحركات الإسلامية، وآخرها، حالة التنافس على قيادة العالم الإسلامي، وقد بدا ذلك جلياً حتى في الملف السوري الذي جمع الطرفين إذ تفرد كل منهما في فترة زمنية وفي ملفات محددة (هيئة التفاوض في مقابل مسار أستانة) ولم يصل الأمر إلى تحالف استراتيجي حقيقي في ملف كهذا بالغ الحساسية والخطورة على كليهما.
واليوم، مع الأزمة الخليجية – الخليجية بأبعادها الإقليمية والدولية يتبدى الأمر بشكل أكثر وضوحاً ودلالة. فلا يتصور أحد أن الرياض قد نسقت مع “حليفها” التركي المفترض قبل القيام بخطوتها المفاجئة، كما أن انزعاجها من الموقف التركي يبدو أكبر مما يمكن إخفاؤه. بل يبدو أنها استبقت الأزمة بإلغاء صفقة استيراد سلاح من أنقرة وفق تقارير إعلامية لم تـُنفَ بشكل واضح وحاسم.
لقد أربكت الخطوة التركية بتسريع تصويت البرلمان على نشر قوات على الأراضي القطرية حسابات الرياض وأبو ظبي كما يبدو، فتراجعت سريعاً نبرة “إنقاذ قطر” عالية السقف والموحية بالتحضير لعمل عسكري أو انقلاب داخلي لصالح الحديث عن حل دبلماسي مطلوب من الدوحة أن تقدم استحقاقاته.
ورغم حرص أنقرة على عدم طرح نفسها كبديل للوساطة الكويتية بل كطرف مساعد ومساند لها، إلا أن زيارة وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو لمنطقة الخليج (قطر ثم الكويت) لم تسعد الرياض كثيراً على ما يبدو، فتأخرت موافقتها على لقائه مع الملك سلمان في إشارة لا تخلو من دلالة او رسالة سعودية لتركيا. ونفهم من تصريحات الوزير أن الزيارة لم تحدث اختراقاً ولم يكن لها مردود إيجابي، ولذا غاب احتمال زيارة اردوغان للمنطقة كما كان الناطق باسم الرئاسة التركية قد أعلن، بينما تحدثت بعض وسائل الإعلام أن السلطات السعودية أوقفت صحافيَيْن تركيين رافقا الوزير لتغطية الزيارة واضطر للتدخل بنفسه للإفراج عنهم!!
ساند الموقف التركي المتقدم الدوحة وقوّى موقفها أمام “حلف المقاطعة”، كما كسر الحصار الاقتصادي عليها بالجسر الجوي الذي حمل المواد الغذائية إليها. ورغم حرص أردوغان على طمأنة باقي الدول بخصوص أهداف القاعدة العسكرية التركية في قطر وإبداء استعداد بلاده لإقامة قواعد على أراضيها هي أيضاً، إلا أن ردة الفعل السعودي غير الرسمية (تصريحات مصادر سعودية للإعلام) كانت حادة ونافية لـ”حاجة” المملكة لتلك القواعد.
لكن يبدو أن كل ذلك لم يكف الرياض للتعبير عن تحفظها على الموقف التركي من الأزمة، فتجاوزت خطوطاً كانت وما زالت تعتبر حمراء وحساسة جداً بالنسبة لأنقرة. استضافت وسائل إعلام سعودية قيادات كردية سورية منها صالح مسلم زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المصنّف على قوائم الإرهاب التركية الذي اتهم أنقرة بـ”إبادة” الأكراد، ودعا إعلامي سعودي معروف إلى دعم حزبي العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً انفصالية ضد الدولة التركية وتأييد إقامة “دولة كردية في الجنوب التركي”.
في الخلاصة، أظهرت الأزمة الأخيرة مدى هشاشة العلاقة بين الجانبين التركي والسعودي رغم حرصهما- سيما أنقرة – عليها بسبب المهددات والمخاطر المشتركة، وأنها أبعد ما تكون عن التحالف المتماسك أو المحور المتكامل الذي يفترض أن يتعاون أو أن يتفهم بعضه بعضاً في المنعطفات المهمة.
اليوم، يتضح أكثر من ذي قبل أن الخلفيات التاريخية وأفكار القيادة وتوجهات السياسيين تؤثر أحياناً في صناعة السياسة الخارجية لبعض البلاد أكثر من المصالح والمخاطر، وأن العامل الشخصي يطغى في كثير من الأحيان على المؤسسي، وأن الارتجال قد يطيح بمصالح وأسس كثيرة، وأن ما قيل عنه يوماً “محوراً” أو “تحالفاً” تركياً – سعودياً كان تفكيراً رغبوياً أو أملاً أو مقولة سيقت لأهداف ترويجية أكثر من كونه تحليلاً مبنياً على منهجية سليمة ومعطيات دقيقة. ليبقى السؤال الأهم متعلقاً بمستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين في ظل أزمة تبدو مستدامة وطويلة الأمد ومفتوحة على سيناريوهات كثيرة.
ترك برس