يتفسخ الوطن في رماد الحرب المتراكم فوق جثث أبنائه، فتضيع ملامح أفراده في أزقة الغربة، باحثين عن محطات استراحة في قطار الذاكرة، وعند أول لهفة انتظار، تسحّ ملامحك القديمة عن بسمات الآخرين، في أرصفة تعبق بروائح الحنّاء المعجون بماء زهر الياسمين الشامي، عن زنود لطخت بالطين، وصقلت بحنان الخشب.
في إمارة وصفها عبد الرحمن منيف بمدن الملح، تراكمت فوقها روايات أعمق من تاريخها، وآخرها كانت رواية” بيت حدد” للسوري فادي عزّام، ليس عجباً هذا التقارب بين البيتين، ففي “بيت حدد” الذي رسمه عزام في روايته، يتحدث عن جذور ضاربة في تاريخ الشام، تعود لمئات الأجيال وجدت عظامهم وألوف السنين وثقتها آثارهم من الخشب والخزف.
وفي ملحمة روائية أخرى للعظيم “عبد الرحمن منيف” يتحدث عن إماراة وصفها ب”مدن الملح” في نظرة منه لذوبان هذه الظواهر النفطية المستحدثة، بعد مطلع القرن التاسع عشر.
السفر بين المدينتين
وفي السفر بين المدينتين بين الخزف والملح، يطالعنا المقدّم”خالد الغنبري” بكنز من كنوز سفره، في حلقة من برنامجه يسافر فيها إلى متحف الشيخ” فيصل بن قاسم آل ثاني” في كومة من الملح، يظهر بمقطع فيديو يثير القلق والخوف والعجب والاستفهام والتساؤل والبحث عن فلسفة التكوين.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/759196891867664
داخل المتحف وبعد أن نشاهد في متحف خاص، خريطة من نسيج يدوي بلاد الرافدين، يندهشق المقدم ببيت دمشقي يصفه بالعريق، نعم بيت دمشقي وليس أي بيت، يقول أنه بني منذ أكثر من مئتي وخمسين عام، أي قبل تأسيس مدينة رمله بما يقارب الخمسة أضعاف فقط.
اللوحة التعريفية
والغريب أن اللوحة التعريفية بالمنزل كانت تشير إلى صاحب المنزل، وهو “حقي بن عبد القادر مؤيد العظم” والذي كان أول حاكم لدولة دمشق بعد الانتداب الفرنسي, وأول رئيس وزراء لدولة سوريا، ولا يعني شيء إلا أنه سرقت ذاكرة المكان، حيث شهدت قاعات المنزل أولى خطوات الحرية والدولة المدنية في سوريا، قبل أن تبتلعها انقلابات حكم العسكر، التي أفضت إلى ما نحن عليه.
في تلك الجدران التي حكى عنها “اليوتيوبر” بأن أمضوا سنتين في تفكيكها وتركيبها فوق الملح، هل يعرف كم شهدت هذه الحجارة من مؤامرات سياسية، والتخطيط لمظاهرات وحملات ضد العثمانيين والفرنسيين، هل يسمع وشوشات الزخارف في الخزفيات، و قصص حركات التحرر التي نقشتها، وكم أتعبها سهر فناني دمشق وشعرائها حول تلك البحرة.
لا نستطيع أن نحمّل العصابة الإرهابية، وتاجرة المخدرات في دمشق ما يدعى نظام الأسد تلك الجريمة الشنيعة، لأنه أقل أخلاقياً بكثير أن يحمل في جيناته الدم السوري، ومن يقتل الانسان السوري هينٌ عليه قتل الهوية الثقافية لذلك الانسان.
ولن نحمل الأمانة السورية للتنمية والتي تتبع مباشرة لسيدة الياسمين أسماء الأسد، لأنها أثبتت بكل معايير الإنسانية أنها تبيع سوريا بحقيبة جلد نمر.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/460968595831900/?extid=WA-UNK-UNK-UNK-UNK_GK0T-GK1C&ref=sharing
ولا مديرية الآثار والمتاحف، التي من قبل الثورة السورية بثورات، حاولت طمس معالم دمشق الأموية والتراثية، وتشهد على ذلك فضائح سوق البزورية وشارع مدحت باشا وباب توما، الذي حولته لخمّارات رخيصة تحمل ثقافة قطّاع الطرق والميلشيات، عدا عن الحرائق المفتعلة والمقصودة في دمشق القديمة للضغط على الدمشقيين وبيع ممتلكاتهم لتصل أصولاً إلى تجار المخدرات من ميلشيات طائفية إيرانية وعراقية ولبنانية.
يعرف القاصي والداني أنّ دمشق القديمة، بحاراتها السبع استملكت مديرية الآثار قسم منها مستعينة بثغرات القوانين القديمة، التي تعود لقبل السبعينات، وقسم مستملك فعلياً تحت ذرائع أخرى، وقسم ما زال بيد الدمشقيين ولكن تمارس عليهم أبشع الضغوط، من حرق وتضييق ليتنازلوا عن هذه الهوية الثقافية لصالح الحقد الطائفي.
والسؤال الأهم، هذا البيت الذي يعتبر روحًا من أرواح سورية العظيمة، كيف وصل إلى دولة قطر، وإلى متحف خاص ليس ببعيد عن الحكومة القطرية، ومن أي أبواب دمشق خرج، وفي أي رمال الملح اندثر، أليس لهذا البيت هوية في لوائح التراث العالمي في منظمة اليونسكو العالمية، أليس في دولة قطر قانون يذكّر بنقل التراث والآثار وثقافة الشعوب من بلد لبلد، أم أنها مدن الملح التي تحاول أن تختبئ في بيت حدد.