حسين عبد العزيز – العربي الجديد
لا يهدف هذا المقال للدفاع عن تصريحات رئيس وفد المعارضة السورية في أستانة، أحمد طعمة، أخيرا، بقدر ما هو محاولة للوقوف على الإشكالية السياسية، وربما الفلسفية، القائمة الآن على الرغم من مرور سبع سنوات على الثورة السورية، وأعادت إحياءها تصريحات طعمة أن حمل المعارضة السورية السلاح ضد النظام خطأ، وأن المعارضة السورية لم تطرح نفسها بديلا للنظام، في وقت دعا إلى تغيير الدستور الذي وضعه النظام في العام 2012، وأعطى للرئيس سلطات مطلقة على مجمل الحياة السورية، وهو موقفٌ يبتعد عن موقف الائتلاف المعارض الذي يطالب بتجاوز هذا الدستور كليا، ويقترب من الموقفين الروسي والأميركي اللذين يقبلان بتغيير بنوده، ويختلفان في حجم التغيير ومستواه.
من حيث المبدأ، يكاد لا يختلف أحد على أن عسكرة الثورة (أي ثورة) ستنتهي إلى فشل ذريع، وتقضي على المبادئ التي خرجت للمطالبة بها مع الانزياحات الاجتماعية الاقتصادية التي أحدثتها عملية العسكرة في المنظومة الاجتماعية. والتاريخ والقريب شاهد على ذلك، فهناك عشرات التجارب الثورية السلمية استطاعت تحقيق أهدافها: ثورة العمال في روسيا عام 1905 التي استطاعت بسلميتها إسقاط السلطة القمعية. وثورة السلفادور عام 1944 حين نجحت الطبقة الوسطى المتحضرة في القيام بإضراب عام شل البلاد، وأجبر الجنرال مارتينز على الاستقالة. وثورة إيران عام 1979. وثورة تشيلي عام 1983 بقيادة الحركة الشعبية التي أطاحت حكم الديكتاتور أوغستو بينوشيه. وثورة 1986 في الفيليبين بقيادة كورازن أكينو التي نجحت في إسقاط ديكتاتورية فرديناند ماركوس. وثورة التشيك عام 1989 (المخملية) التي أسقطت الحكم الشيوعي، إلى ثورات إستونيا ولاتفيا وبورما وجورجيا وأوكرانيا وتونس ومصر.
كان للنظام السوري الدور الرئيس في عملية العسكرة، باستخدامه القوة المفرطة، وإدخاله مندسين بين المتظاهرين، لزرع الفتن وتشويه الحراك الثوري، ولكن البنى الاجتماعية السياسية في سورية لم تكن ناضجة تاريخيا لاستيعاب متطلبات الثورة، ولذلك سرعان ما انجرّت إلى ساحة النظام وملعبه.
وقد صدقت الأيام والسنون، بعد أن أصبح معلوماً وضع المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، فلم تنجح في ترتيب بيتها الداخلي المليء بالمتناقضات. ولذلك من الطبيعي ألا تشكل حالة بديلة عن النظام وفق المعايير الدولية في قيادة الدول، لا وفق معايير الشارع. وبذلك، عمليا، لا غبار على كلام أحمد طعمة، وأهميته ليست في ذلك، وإنما في توقيته ودلالاته السياسية، بعد اجتماع “أستانة 9” الذي ثبت وقف العمليات العسكرية الكبرى، بترك مسألة الجنوب معلقة للتفاهمات الروسية ـ الأميركية، وترك مصير إدلب للإدارة التركية، في وقت تتجه روسيا بقوة إلى تحويل أستانة من المستوى العسكري إلى السياسي.
هنا قد تُفهم تصريحات طعمة أن الحل العسكري للقضية السورية مستحيل، وأن على الفصائل المسلحة الانخراط بقوة في المسار السياسي، والعودة بالثورة إلى سيرتها الأولى، مع ما قد يحمله ذلك من فهم بسحب الشرعية عن هذه الفصائل، وهو ما لا يقصده طعمة الذي يجسد تيارا سياسيا في المعارضة، تأخر سنوات في إدراك حقيقة المعادلة السورية، بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، لكن هذا التيار يعي اليوم إمكانات الحل ضمن قراءة ليست مغرقةً في الواقعية، ولا في التفاؤلية المثالية. وهذا يعني أن المعارضة مطالبة بطرح خطاب سياسي معقول، قابل للتنفيذ، انطلاقا مما هو قائم، لا مما ينبغي أن يكون، وهذا ما يفسر اقتناعه بأن روسيا تسعى إلى إيجاد حل سياسي.
ومع ذلك، لا تحل تصريحات طعمة الإشكالية، بل تزيديها تعقيدا، فالطرح الواقعي يتطلب من الطرف المقابل تقديم طروحاتٍ واقعية أيضا، وهذا غير متوفر إلى الآن مع نظامٍ ما زال يستخدم مفردات المؤامرة والإرهاب في خطابه، ولا يقبل إلا بإحكام سيطرته على البلاد، مع إصلاحات شكلية، لا تؤدي لاحقا إلى تغيير في بنيته الحاكمة.
وأمام هذه الحقيقة، من الأفضل على المعارضة اعتماد الطروحات الراديكالية، ولا يتم التنازل عنها إلا بتسوية دولية توازي بين خطابي المعارضة والنظام، وتدفع بكليهما إلى تقديم تنازلات جادة. أما إن تنازلت المعارضة عن أساسيات الثورة من طرف واحد، فذلك سيشكل مقتلة لها، وللقاعدة الداعمة لها.
أهمية تصريحات طعمة أنها طرحت إشكاليات بالغة الأهمية، وتتطلب معالجة واعية، بعيداً عن الغضب والعواطف، وبعيداً عن التخوين ومصادرة آراء من لهم رأي، وإن كانت صادمة أو مبهمة. والملفت أن بعض أعضاء الهيئة السياسية للائتلاف ردوا على أسئلة الصحافيين بشأن تصريحات طعمة، بالقول إنها تعبر عن رأيه، من دون محاولة شرحها، بغض النظر إن وافقوا عليها أو رفضوها كليا أو جزئيا، في مشهد يعكس واقع المعارضة السياسية، وعدم قدرتها على طرح الأسئلة الكبرى.