يتساقط “النقد” اليوم من كل حدب وصوب حول الثورة السورية ومساراتها، وأكثر النقد يتركز اليوم على الائتلاف والفصائل الجهادية بدءًا من جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) وليس انتهاءً بأحرار الشام، ليصل كل من يعد إسلاميًا عمومًا.
ليست المشكلة في النقد الذي يعد واجبًا ومطلوبًا في كل لحظة، وإنما في نوع النقد وطبيعته وجدواه بعد أن “وقع الفأس في الرأس”، وفي طبيعته التجزيئية التي تناقش رأس الأزمة، أو ما يطفو على السطح منها لا جذرها، ما يحيل في نهاية المطاف إلى أزمة المثقف وعلاقته بالثورة من جهة ومع المعرفة من جهة أخرى.
كثرٌ هم المشتغلون في الشأن الثقافي والمعرفي الذين انحازوا إلى الثورة السورية، ووقفوا معها وفي صفها، ودفعوا الأثمان الباهظة، إلا أنّ هناك قلّة من هؤلاء انحازت إلى الثورة من واقع موقفها الثقافي حقًا، فحازت على لقب المثقف الذي انتمى إلى الثورة كليًا، دون أن يهادنها معرفيًا، أو يرضخ لمقولاتها والتصوّرات السهلة والرائجة عنها، ما خلق نوعين من “المثقف”، يمكن تلمسهما بوضوح في الثورة السورية: الأول هو “المثقف” الثوري الذي انحاز إلى الثورة كليًا، ولكن غيّب عقله النقدي، فكان ضحية تفاؤله الثوري ورغبويته، والثاني هو المثقف النقدي العمومي، الذي كان ذهنه النقدي حادًا وجارحًا للثورة في كثير من الأحيان، ودون أن يتخلّى عن انتمائه إلى لثورة وإيمانه الكلّي بها، وهو النموذج الذي كان ضحية الثورة، من جهة، وعدم قدرته على إيصال صوته، من جهة أخرى، لغياب المشروعات الحاملة لهذا الصوت أو ضعفها.
تفاؤل “المثقف” الثوري هذا يعكس الوعي الهش الذي يحمله عن الثورة والبلد والنظام والإسلام السياسي والعولمة وعن فهم العالم أساسا، فالعالم لديه مرّكب من قوى الشر (النظام وأنصاره) والخير (الثورة وأصدقائها)، ولا يحتاج الأمر أكثر من اختيار الصف والنضال ضد الطرف الأخر، فالمعركة دائمة ووجودية، أي دينية أصولية في عمقها، ولا مشكل في التحالف مع أي كان لدحر قوى الظلام الاستبدادية، دون أن يدرك أن قوى الظلام (الديني والاستبدادي) تتحالف مع بعضها، وأيضا الدكتاتوريات وإن وقفت ضد بعضها. من سمات هذا النوع من “المثقف” أنه يكتشف الذرة بعد اختراعها، ويدرك الحدث بعد وقوعه، فبعد أن فتك الجهاديون على اختلاف مسمياتهم بالثورة يكتشفون ضرورة الابتعاد عن النصرة، وبعد أن عبثت الدول الإقليمية والدولية بالثورة وجيّرتها لخدمة مصالحها وبقاء النظام يدركون ضرورة الاعتماد على الذات والداخل، وذلك بعد أن أضحى هذا الداخل ضعيفًا ومشرذمًا ومشرّدًا ولاجئًا بفعل ما دعوا إليه.
الأكثر كارثية في خطاب “المثقف الثوري” هذا، أمران: الأول؛ تخوين أو تسخيف كل الأصوات التي قالت سابقًا ما يقولونه هم اليوم (بعيدًا عن خطاب: ألم أقل لكم؟ لأن النقد هنا يتحدث عن مثقفين كان وقوفهم ولازال إلى جانب الثورة)، والثاني؛ عودتهم إلى النقد اليوم من الباب نفسه، أي النقد الجزئي والمعكوس، فبدلًا من نقد الجذر الأساس للمشكلة وإعادة العمل في سياق صحي يبدأ من الاعتراف بالجميع، ودون أي إقصاء لأحد بعد التلاقي على مشروع سياسي وطني يمتلك آلية عسكرية واضحة، والبناء عليها، نجد أن النقد يتركز على الائتلاف أو الجهاديين أو التدويل، هكذا بإطلاق، دون نقد الأسس التي ساعدت هؤلاء في تحقيق كسرهم للثورة السورية، إذ لا يستقيم نقد الائتلاف الوطني، دون نقد المجلس الوطني قبله، ودون نقد العقلية التي كوّنت هذه الهياكل المعارضة بالاستناد إلى قوة الخارج الذي سُمح لها بأن يصبح لها صوت في الداخل عبر الكتائب المسلحة التي بات ترتهن لهذا الطرف أو ذاك، ما يضعنا أمام نقد كارثي بامتياز يعيد الكارثة المرة تلو المرة.
ما نحتاجه اليوم في سورية، هو المثقف النقدي العمومي، الذي لم يلبث أن أعلى صوته صادحا بالنقد منذ لحظات الثورة الأولى، دون أن يتخلّى عنها (وهذا شرط شارط لامتلاكه صفته تلك، أي الوقوف إلى جانب الثورة عبر خطاب واضح يشير إلى علّة الاستبداد، مشخصة برمز الدكتاتور الأسد وضرورة رحيله). وهذا الصوت وُجد خلال الثورة، ولكنه كان الأضعف والأقل تأثيرًا واستماعًا له، فنحن بحاجة إلى تفعليه وإعلاء صوته كما إعلاء كل صوت مختلف.
ما سبق يسلّط الضوء على أزمة “المثقف” أو الفاعل الثقافي الذي لم تغيّر الثورة في عقله الكثير، لأنه لا يمتلك صفته تلك ما لم يكن قادرًا على قول المعرفة في لحظتها، وبعيدًا عن التيار السائد، فصفته تلك تتحدّد بأنّه ضد قول الجمع، بأنه مفرد قادر على معرفة ورؤية ما لا يراه جمهور الثورة في لحظة ما، فيعلي صوته ضدهم لأجل مصلحتهم، وهو ما فعله مانديلا في لحظة فارقة من تاريخ نضاله ونضال الشعب الجنوب الإفريقي حين وجه كلمة لشعبه: “لا يوجد سوى حل واحد أمامنا، ألا وهو السلام. أعلم أن هذا ليس ما تودون سماعه ولكن لا يوجد حل سواه. أنا قائدكم وطالما أنا قائدكم سأمنحكم الزعامة، وطالما أنا قائدكم، فسأنبهكم دائما عندما تكونون مخطئين، وها أنا أنبهكم الآن بأنكم مخطئون”.
هذا هو الصوت الذي قليلًا ما سمعناه في الثورة السورية، من المثقف والسياسي على حد سواء، ما يشير إلى أزمة الثقافة وغياب المثقف النقدي العمومي الذي احتاجه الشعب السوري والثورة السورية بدلًا من المثقف الثوري الذي لا يفعل إلا محاكاة الغرائز ورفع كرسي عرشه على آلام الشعب حين يبيعهم وهمًا اكتشف اليوم كذبه، ولا زال يبحث عن وهم آخر يسوّقه.
جيرون