بكر صدقي – القدس العربي
تعرضت مدن وبلدات في محافظة إدلب، الأسبوع الماضي، إلى قصف جوي عنيف من طيران النظام، بعد أشهر من الهدوء النسبي في إطار مسار آستانة. وكانت الكلفة البشرية مرتفعة جداً، في بلدة زردنا، بصورة خاصة، حيث قتل 48 مدنياً، فيما استهدف القصف مشفى أطفال في تفتناز قتل فيها عشرة أشخاص نصفهم أطفال. كما استهدف القصف بلدات وقرى بنش وأريحا ورام حمدان وقرى أخرى. وشهدت تلك المناطق حركة نزوح كثيفة باتجاه الحدود التركية المغلقة في وجه اللاجئين.
ويمكن إدراك خطورة ما تواجهه منطقة «خفض التصعيد» هذه من قراءة تصريحات منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، بانوس موميتز، الذي حذر من موجات نزوح كبيرة قد تصل إلى مليونين ونصف المليون هم عدد السكان الأصليين إضافة إلى النازحين من مناطق أخرى على مدى السنوات السابقة. وتحدث موميتز عن «حالة تأهب قصوى» لدى فرق الإغاثة التابعة للأمم المتحدة في المناطق المستهدفة.
اللافت أن تركيا، بمسؤوليها وإعلامها، لزمت الصمت بشأن هذا التصعيد الخطير في منطقة مجاورة لحدودها، تنتشر فيها نقاط مراقبة للجيش التركي، ومن المفترض أنها تحت الحماية التركية وفقاً لتفاهمات آستانة مع روسيا وإيران. وإذا كانت روسيا قد نفت مشاركة طيرانها في قصف تلك المناطق، فهذا لا يعفيها من مسؤولية ما يقوم به طيران النظام الكيماوي الذي لا يستطيع الإقلاع من أي مطار بدون موافقة روسية.
هذا ما يسمح لنا بطرح افتراضات عما يدور تحت الطاولة أو وراء الأبواب المغلقة. من المحتمل أن روسيا التي لم تنجح، إلى الآن، في الوصول إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة بشأن سوريا، شبيهة بتفاهماتها مع الإدارة الأمريكية السابقة، تعمل على تخريب التقارب المحتمل بين أنقرة وواشنطن بصدد ما سمي بخارطة الطريق بشأن منبج. مع العلم أن القراءتين التركية والأمريكية مختلفتان، إلى الآن، لخارطة الطريق المذكورة. ففي حين تسعى تركيا إلى تسويقها كإنجاز لسياستها الخارجية، يحقق مطالبها بطرد القوات الكردية من المدينة، يحتفظ الأمريكيون بالغموض بشأنها، فيما يستمر تحالفهم الميداني مع «قوات سوريا الديموقراطية» في مطاردة بقايا قوات «تنظيم الدولة» شرقي نهر الفرات.
يمكن، إذن، قراءة كل من الغموض الأمريكي والتصعيد الروسي، كفكي كماشة تضغط على أنقرة لتحدد خياراتها الاستراتيجية وتموضعها في التنافس الأمريكي – الروسي، في وقت تنام تركيا وتستيقظ على وقع حملة انتخابية مزدوجة، برلمانية ورئاسية، يقترب موعد إجرائها باطراد، ويشتعل التنافس فيها بين الحكم والمعارضة، ولا يبدو فيها كل من الرئيس أردوغان وحزبه في أفضل حالاتهما.
حتى منافسي أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وأحزاب المعارضة، لا يتوقعون أن يخسر أردوغان في الانتخابات الرئاسية، لكن حزب العدالة والتنمية قد يخسر غالبيته البرلمانية أمام مجموع أحزاب المعارضة، وإن كان سيبقى صاحب الحصة الأكبر في مقاعد البرلمان الـ600. وفي هذه الحالة قد لا يتمكن من تشكيل حكومة بمفرده أو مع حليفه الصغير «حزب الحركة القومية»، ما لم يتمكن من استمالة أحد أحزاب المعارضة، وتبدو هذه في حالة إجماع على وجوب تغيير الحكم.
خسارة الغالبية البرلمانية قد ترغم السلطة على إعادة الانتخابات، بعد ثلاثة أشهر، وهو ما يحتم إعادة الانتخابات الرئاسية أيضاً، وفقاً للتعديلات الدستورية التي ربطت بين البرلمانيات والرئاسيات.
الطريقة الوحيدة لعدم خسارة «العدالة والتنمية» وحليفه القومي الغالبية البرلمانية، هي في إفشال «حزب الشعوب الديموقراطي» في تجاوز حاجز العشرة في المئة المشترطة لدخول نوابه إلى البرلمان. ففي هذه الحالة تذهب أصوات ناخبي الحزب الكردي إلى منافسه التقليدي في مناطق نفوذه، أي حزب العدالة والتنمية. ويتراوح عدد المقاعد النيابية التي قد يخسرها «الشعوب الديموقراطي» ويكسبها «العدالة والتنمية»، في هذه الحالة، بين 60 – 70 مقعداً، من شأنها ترجيح الكفة للحكم أو مجموع المعارضة في مجلس النواب.
هذا ما يفسر غياب تصعيد إدلب، في المعركة الانتخابية، مقابل الحضور البارز لـ»خريطة طريق منبج» والحملة العسكرية على جبل قنديل حيث تتمركز القيادة الميدانية لحزب العمال الكردستاني. وحيث أن موضوع منبج لم يعط ثماراً واضحة وفورية، وبقي موضوع طرد قوات قسد منها، على ما تأمل القيادة التركية، غارقاً في الغموض الأمريكي، تصاعدت نبرة الوعيد بشأن جبل قنديل التي تتعرض لقصف الطيران التركي فعلاً منذ أشهر، ومن المتوقع أن يليه اجتياح بري «لتطهير تلك المنطقة من الإرهابيين»، كما توعد وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو، اجتياح بري «يمكن أن يبدأ في أي لحظة» كما قال. وبالنظر إلى رغبة الحكومة في توظيف هذه الحملة العسكرية المرتقبة لمصلحة الحزب الحاكم في الحملة الانتخابية، سواء بكسب مزيد من أصوات التيار القومي المنقسم على نفسه، أو بدفع الحزب الكردي إلى ارتكاب حماقة ما عشية الانتخابات (كالدعوة إلى التظاهر مثلاً، أو إطلاق تصريحات تخل بـ»الوحدة الوطنية»)، بما من شأنه دفنه تحت حاجز العشرة في المئة.
بالعودة إلى التصعيد الروسي في منطقة «خفض التصعيد» التركية في إدلب، لا بد من التذكير بما قاله وزير الخارجية الروسي، بعد لقاء بوتين – بشار في سوتشي، عن ضرورة انسحاب جميع القوات الأجنبية من الأراضي السورية. ولا تقتصر هذه على الإيرانيين وحدهم، بل تشمل تركيا أيضاً التي تسيطر على منطقتي «درع الفرات» وعفرين، إضافة إلى 12 نقطة مراقبة في محافظة إدلب. من المحتمل، إذن، قراءة التصعيد الأخير بوصفه ضغطاً مباشراً على تركيا يهدد بإخراجها من الأراضي السورية، ما لم تخضع خضوعاً تاماً للمطالب الروسية، والتزاماً بالتحالف مع موسكو بدلاً من التقارب مع واشنطن.