بعد مرور أكثر من خمس سنوات على الثورة السورية والحرب الإقليمية والدولية التي اندلعت على هامشها، لم يعد هناك مهربٌ من أن تقوم المعارضة السورية بمراجعةٍ، أو بالأحرى بإعادة تقييم سياسات الدول الصديقة والعدوة. وهي مراجعةٌ لا بد منها، من أجل إعادة بلورة استراتيجية بديلة، تستجيب لما طرأ على سياسات الدول وخياراتها من تحولات. وتصبح المسألة أكثر أهميةً عندما يتعلق الأمر بتحولاتٍ تمس سياسة الولايات المتحدة الأميركية، وهي لا تزال الدولة الأكثر نفوذاً في المنطقة الشرق أوسطية. فجميع الدلائل تشير، منذ سنتين على الأقل، إلى أن واشنطن انتقلت من موقع الحليف والداعم للمعارضة السورية إلى موقف الطرف المتحفظ الذي لا يرى خياراً صائباً، لا في الحفاظ على النظام، ولا في دعم المعارضة. وبعد أن كانت تصر على رفض التدخل لقلب الحكم القائم في دمشق، أصبحت تجاهر بأنها لن تتدخل، حتى من أجل فرض حل سياسي أيضا.
وفي هذا السياق، عطلت جميع مشاريع تدريب (وتسليح) الفصائل السورية التي وعدت، منذ سنتين، بتشكيلها، وأظهرت حرصاً استثنائياً على العمل يداً بيد مع موسكو، بصرف النظر عن استمرار روسيا في الدفاع عن بقاء النظام السوري، وتقديم الدعم العسكري القوي له، كما صرفت النظر عن تدخلات المليشيات الإيرانية المتزايدة، ورفضت اتخاذ أي إجراءٍ يجبر الأسد على وقف القصف العشوائي للمدنيين، ومتابعة سياسات التهجير القسري، وتفجير أكبر أزمة إنسانية، شهدها القرن، مع استمرار عمليات القتل بالجملة، وتشريد الملايين، وتقويض مستقبل أجيال كاملة.
تتصرف واشنطن بوضوح، كما لو أن مصير سورية، ولا أقول مصير المعارضة والثورة، لا يعنيها كثيراً، وأن الأجندة الوحيدة التي تملكها اليوم في هذه البلاد هي أجندة الحرب على الإرهاب. لكن، من الواضح أيضاً، من مستوى مشاركتها الضعيفة في هذه الحرب، وتحالفها الوحيد مع قوات الحماية الكردية على الأرض، وتجنبها زج القوى العربية، أو مشاركتها فيها، أن هدفها من إعلان هذه الحرب ليس القضاء على الإرهاب، بمقدار ما هو التغطية على تخليها عن المشاركة في مواجهة تعقيدات المسألة السورية، ورفض الانخراط الجدّي في العمل على الحل الذي مازالت تعد به السوريين منذ سنوات، بعد أن عطلت رسمياً، بحرمانها المقاتلين من وسائل الحسم، أيَّ حل عسكري.
الترجمة العملية لهذا الموقف هي أن واشنطن، في ما عدا المشاركة في الحرب ضد داعش، والاستمرار في دعم قوات الحماية الكردية التي تطبق أجندتها في الحرب على الإرهاب، والعمل على تعزيز نفوذها الأمني والعسكري على الأرض السورية، لم تعد تتمسّك بأي التزاماتٍ أخرى، ولا تريد أن تضحّي من أجل الحفاظ على أي تحالفاتٍ سابقة، لا مع المعارضة السورية المعتدلة، كما كانت تسميها في مرحلةٍ سابقة، ولا مع الدول التي كانت تعتبرها حليفاً استراتيجياً لها، في الخليج وتركيا. منذ الآن، على كل طرفٍ أن يقلع شوكه بيده، الخليج تجاه إيران، وتركيا تجاه الأكراد، والفلسطينيون والعرب تجاه إسرائيل. أما ملف الصراع السوري السوري، ومن ورائه مصير الجيش الحر المرتبط به، فلم تعد معنيةً كثيراً به، وربما تنظر إليه على أنه من رواسب الصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة، ولا يمكن البت فيه من دون التوصل إلى تفاهمٍ إقليمي لا يزال بعيد المنال.
مهما كان السبب وراء هذا الموقف، سواء أكان اعتقاد واشنطن بأنه لا توجد هناك إمكانية لحلٍّ
“تريد واشنطن قصر نشاطها على الدفاع عن مصالحها القومية الواضحة والمباشرة” سريع للصراع الذي أصبح متعدّد الأبعاد والرهانات، أم أن العمل على هذا الحل لا يخدم، في الظروف الراهنة، مصالحها القومية الأمنية والاستراتيجية، فالنتيجة واحدة. وهي أن واشنطن انتقلت من قائمة الدول التي تدعم المعارضة السورية العاملة على تغيير النظام السوري، في المدى المنظور، ووضع حدٍّ للمحرقة السورية، إلى قائمة الدول التي لا يعنيها مصير سورية والسوريين كثيراً اليوم، وتفضّل أن تنتظر تطورات الأحداث واتجاهاتها، قبل أن تتخذ الموقف النهائي من مسألة تقرير مصير سورية ونظامها، وأن تعيد رسم سياستها الإقليمية، وتحديد خياراتها في جميع القضايا المطروحة على بساط الحرب: قضية نظام الأسد والنظام البديل، بشكلٍ خاص، قضية الصراع الإقليمي الإيراني السعودي، قضية الصراع التركي الكردي، قضية الصراع العربي الإسرائيلي. وفي انتظار ذلك، ليس على السوريين سوى الانتظار تحت قصف البراميل المتفجرة وفجائع تجريب المعدات العسكرية الروسية الجديدة.
لا يعني هذا الموقف أن واشنطن انسحبت، أو أنها تسلم سورية لروسيا وايران، كما يعتقد بعضهم، ولا أنها تريد تجميد الأوضاع، كما هي لتكريس التقسيم، ولا التمديد في أجل القتال، وإنما تريد قصر نشاطها على الدفاع عن مصالحها القومية الواضحة والمباشرة، وتجنب القيام بأي مبادراتٍ خاصة، ما لم يتهدّد موقعها المتميز الذي يجعل منها، على الرغم من المظاهر، اللاعب الأول في إدارة الأزمة السورية متعدّدة الأبعاد، سواء من خلال تحكمها بإدارة غرفتي العمليات الشمالية والجنوبية التي تنظم تسليح قوات المعارضة المقاتلة وتمويلها، أو تفاهمها مع موسكو لتحييد الدول الأوروبية ودول الخليج، ومنع هؤلاء جميعاً من التشويش عليها على صعيد السياسة الدولية. ويدرك الأوروبيون والعرب أنه لا يمكن تغيير شيء في المعادلة القائمة، من دون موافقة واشنطن، وليس بإمكان أي منهم القيام بأي مبادرةٍ خارج ملف تخفيف المعاناة الإنسانية عن السوريين. كما يدرك الروس، أيضاً، أن تدخلهم في سورية لم يأت تحدّياً للولايات المتحدة، وإنما بالعكس انسجاماً مع الخيارات الأميركية، وفي إطارها، وهو يشكل جزءاً لا يتجزأ من هذه المعادلة التي عملت واشنطن على فرضها.
خيارات الرئيس الأميركي أوباما المعروفة في رفض التدخل في أي حربٍ أو مواجهةٍ خارج الولايات المتحدة، لعبت من دون شك دوراً رئيسياً في توجيه الأمور هذا الاتجاه. لكن، ساعد على تعزيزها والتمسك بها بشكل أكبر اكتشاف واشنطن، مع الوقت، عمق التناقضات التي تهز المنطقة وتقسم الأطراف المتنازعة السورية والإقليمية، وبالتالي، استحالة التوصل، في الظروف الراهنة، إلى تسوياتٍ سريعةٍ ومقبولة، لا في الصراع بين الأسد والمعارضة، ولا على جبهة الصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران، وبين تركيا والمنظمات الكردية، وبين الفلسطينيين وإسرائيل.
ليس مهماً إن كان الوصول إلى هذا الموقف الذي يدخل المنطقة في نفقٍ أسود، هو النتيجة الطبيعية لخياراتٍ استراتيجية واعيةٍ، أم أنه ثمرة التحولات التي شهدتها الحرب السورية الطويلة وتعقيداتها، أو بسبب إدراك واشنطن لإخفاق سياساتها، بعد تردّد قادتها في دعم المعارضة، ورهانها على “العقلانية” الإيرانية المفترضة، بعد التوقيع على الاتفاقية المتعلقة بالملف النووي. المهم أن واشنطن تبدو غير مستعدة إطلاقاً لأن تبذل جهوداً من أجل إيجاد حل للنزاع الإيراني العربي، ولا للنزاع الشيعي السني المتفرع عنه، ولا التركي الكردي الذي انجرّ منه، ولا العربي الإسرائيلي، ولا الروسي الأوروبي الذي غذّته سياستها الأطلسية. وهي تسلم بالأمر الواقع، وتستسلم له، ولا ترى أي فائدةٍ في أي مبادرةٍ أميركية للتقريب بين وجهات نظر أطرافٍ تنكر بعضها بعضاً، وترفض الاعتراف بمصالحها المتباينة، بمقدار ما تراهن على قدرة الاستنزاف المتبادل في حربٍ مفتوحةٍ على دفع جميع القوى المتنازعة إلى اكتشاف حدود إمكاناتها بنفسها، والدخول برضاها في مفاوضاتٍ جديةٍ تفضي إلى تسوياتٍ مقبولةٍ ودائمة.
ومن الآن حتى يتحقق ذلك، تواجه المعارضة وحلفاؤها تحديات معضلة انخفاض الوزن، في مواجهة عواصف عاتية. وهذا يطرح عليها سؤالاً كبيراً يتعلق بماهية خياراتها والخيارات العربية والتركية البديلة أمام انسحاب واشنطن من التزاماتها حليفاً وداعماً رئيسياً. فكيف يمكن التحرّر من قبضة واشنطن التي تتحكم بمصير المعارضة المسلحة التي تشكل حصان الرهان الوحيد في مواجهة تغوّل القوى الإقليمية والدولية على البلاد وزعزعتها، وتحرم الجميع من منافستها على أخذ المبادرة السياسية، الإقليمية والدولية، التي تصر على الاحتفاظ بها كاملةً في يدها؟ ما الرد الممكن على المنع الرسمي للحسم العسكري والامتناع العملي للحل السياسي؟ وما الحل عندما تتخلى الولايات المتحدة عن حلفائها، وترفض، في الوقت نفسه، أن تقوم بمسؤولياتها الدولية في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وفرض احترام القانون والحد الأدنى من العدالة، وهي القوة الأعظم في المنظومة الدولية؟ هذا هو التحدّي الأكبر والأخطر للثورة السورية وللمعارضة وحلفائها معاً.
العربي الجديد