توصف بيروت بأنها مدينة مليئة بالتناقضات، وأبرزها الجمع بين الحفاوة بالحياة وذكريات الموت جراء الحروب العديدة التي جرت على أرضها.
وكانت منطقة وسط بيروت واحدة من أكثر المناطق اللبنانية التي عانت خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، إذ كانت ساحة قتال استخدمتها المليشيات المختلفة على جانبي الخط الأخضر الذي قسم المدينة إلى جانب شرقي مسيحي وجانب غربي مسلم.
وهكذا تمت عسكرة المدينة ككل والمنطقة المركزية بشكل خاص، وألغت الحرب التمييز بين المساحات الخاصة والعامة، إذ تحولت المنطقة المركزية ومبانيها إلى “البنية التحتية للحرب”.
ورغم الدمار الهائل الذي لحق بالمنطقة الوسطى في بيروت، إلا أن عمليات إعادة البناء التي قامت بها “سوليدير” بعد الحرب أدت إلى تدمير وإزالة مخلفات الحرب الأهلية كما لو أن الحرب لم تحدث أصلا.
ويدرك المتجول في هذه المنطقة الآن مدى حداثتها وطراز أسواقها الأوروبية وروح العولمة والاستهلاك التي حلت محل المباني الممتلئة برصاص الحرب.
اعلان
ويبقى السؤال: هل نجحت عملية إعادة إعمار وسط بيروت وفق فلسفة الليبرالية الجديدة في تطويق وتجاهل ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية، واستبدال الثقافة الطائفية في لبنان بثقافة غير طائفية؟
باريس الشرق الأوسط
تم تصميم المنطقة لتكون محايدة وتعبر عن الحنين إلى ماضي بيروت في الستينيات، وهي الحقبة التي وصفت فيها بيروت بأنها “باريس الشرق الأوسط”، وجرى ترميم مبان قديمة بكفاءة وعناية بأدق التفاصيل، وهو ما جلب التأييد لهذا المشروع الذي يمزج الأصالة التراثية بالحداثة الفنية.
ومع ذلك فإن الأسواق الجديدة وعلاماتها التجارية الشهيرة “تشبه المراكز التجارية الأميركية بدلا من الأسواق العربية الشعبية”، بحسب وصف الأكاديمية في جامعة روسكيلد الدانماركية سون هاوغبول.
وفي دراسة له بعنوان “إعادة إحياء الذاكرة والحنين في لبنان ما بعد الحرب.. لماذا فشلت عملية إعادة إعمار سوليدير في وسط بيروت في بناء التوافق وإعادة دمج المجتمع اللبناني”، اعتبر الأكاديمي هادي مكارم أن السياسات النيوليبرالية التي جسدتها منطقة “سوليدير” أدت إلى تفويض المهام والمسؤوليات العامة للجهات الخاصة، في حين تراجعت الدولة والمؤسسات العامة إلى دور تيسير عمل الجهات الخاصة، وهو ما سبب عواقب سلبية اقتصادية واجتماعية وسياسية على حد سواء.
في المقابل، نشأت تناقضات عدة أبرزها مصادرة ممتلكات بتعويضات غير متناسبة، على اعتبار أن ملكيتهم لها محل شك، وتحولت المنطقة إلى ما يشبه “جزيرة ثرية ومزدهرة” حيث لا يمكن لغير الأغنياء والأثرياء من السياح تحمل تكاليف زيارتها، وخرجت فئات من الباعة والأشخاص غير الملائمين للمناطق الحديثة -مثل المهاجرين والمتاجر الصغيرة والمطاعم الرخيصة- من المنطقة التي قال عنها المهندس المعماري اللبناني عاصم سلام “لقد فقد الحي كل شخصيته.. لا يستطيع أحد أن يعيش هناك”.
ويرى مكارم أن السياسات النيوليبرالية نجحت في إعادة الإعمار والبناء المادي، لكنها أخفقت في جوانب اجتماعية واقتصادية، بينما يعتبر أن أي جهود لإعادة الإعمار يجب أن تنطوي على ترميم وإعادة تأهيل دولة تمثل وتحمي المصالح العامة وتحمي السكان من الظلم الاجتماعي والاقتصادي المحتمل الذي تسببه الشركات والجهات الخاصة التي تضع مصالحها الخاصة فوق بقية السكان. ويصبح الأمر أكثر أولوية في بلد عانى سنوات طويلة من الحرب.
إضافة إلى ذلك، ينبغي أن تكون مساهمة الفنانين والمهنيين والكتاب والمثقفين وأصحاب الممتلكات والشخصيات الدينية وغيرهم ضرورية لتحقيق التوازن في مخطط إعادة الإعمار في أهم قطعة أرض في البلاد، إذ لا يعد البناء في بيئة ما بعد الحرب مجرد إنشاء لمبان وبنى تحتية بديلة عن تلك المدمرة، ولكن يتضمن إعادة بناء الدولة التي مزقتها الحرب، والمجتمع المنقسم، والاقتصاد المدمر أيضا، وتعزيز مبادئ التعايش والتعددية والتسامح، بحسب دراسة مكارم.
النسيان أم التذكر؟
بشكل عام، تشير أدبيات العدالة الانتقالية إلى أن هناك طريقين متناقضين نحو المصالحة: هناك طريق ينطوي على إعادة سرد ما جرى والتذكير به، إما من خلال إنشاء اللجان الرسمية أو التحقيق ورفع السرية عن الوثائق الحكومية على مدى فترة معينة. والطريق الآخر هو إنفاذ العفو العام ونسيان ما جرى بدلا من الاعتراف بالعنف، ويسمى ذلك “سياسة فقدان الذاكرة”.
وبينما تبنت بعض البلدان الخارجة من حروب أهلية مثل رواندا وجنوب أفريقيا ويوغسلافيا طريق المصالحة والاعتراف للإجابة عن الأسئلة العالقة والتعريف بمصير المختفين ونزع فتيل المظالم المتراكمة، اختارت بلدان أخرى خرجت من الحرب الأهلية -مثل تشيلي وإسبانيا والمكسيك ولبنان- طريق المصالحة عبر نسيان العنف الماضي، وتبنت الحجة التي تعتبر أن ذكريات العنف صعبة للغاية ولا يمكن التعامل معها.
وكما اختارت لبنان “النسيان”، اختارت سوليدير تغييب ذاكرة المكان المشبعة بعنف الحرب. ولم تكن عملية “التطهير المكاني” جديدة على المنطقة، فقد سبق للعثمانيين والفرنسيين في بيروت تبني سياسات إعمار وتحديث مشابهة لتعزيز الحكم الإمبراطوري، فتم إنشاء ساحات عامة مثل ساحة الشهداء حاليا، وساحة عاشور (رياض الصلح حاليا)، لتعكس إسطنبول كنقطة مرجعية للحداثة العثمانية.
في المقابل، تم تزيين المساحات في عهد الانتداب الفرنسي للبنان 1920-1946 لتعكس نمطا أوروبيا حديثا، بما في ذلك ثقافة السينما والتسوق في وسط بيروت، بحسب دراسة الأكاديمية في الجامعة الأميركية بالقاهرة لارا ميخائيل.
وبالتزامن مع أعمال “النسيان المعماري”، حافظت سوليدير على ملامح الحنين إلى العناصر التي اعتبرت سعيدة ومزدهرة، والتي كانت مواتية لثقافة الاستهلاك السياحي والحياة الفاخرة، عندما كان لبنان الصغير يحمل لقب “سويسرا الشرق الأوسط” بسبب الجبال الخضراء والبنوك الحديثة.
بوتقة الانصهار
وترى ميخائيل أنه من خلال التأكيد على روح العولمة والاستهلاك، أرادت سوليدير أن تكون وسط بيروت مدينة غير مسيسة، أو “بوتقة انصهار” لمختلف الجماعات الطائفية اللبنانية، وهي عملية وصفت بأنها خلق للذاكرة الجماعية الجديدة بديلة عن المرتبطة بخيالات وذاكرة الحرب.
ووصفت الدراسة هذه الطريقة بأنها محاولة لجعل المواطنين يتخلون عن ولائهم الطائفي والعرقي واستبدالهم “بمواطنة السوق”، حيث يتم التأكيد بشدة على روح الفردية.
وتخلص الدراسة إلى أن عملية إعادة الإعمار الجديدة لم تفلح في كبح الطائفية، بل حولت منطقة بيروت المركزية إلى مساحة مجردة خالية من أي هوية إقليمية أو محلية ما بدا وكأنه “إعادة تفسير لماض لبناني أليم”، وخلق ذاكرة جماعية جديدة لا تهتم بمعالجة صدمة الحرب الأهلية، ولكن بدلا من ذلك تضرب بجذورها في نسيان الحرب، و”استبدال” الماضي بماضٍ آخر.
ولكن لم تكن صورة الحي المركزي قبل الحرب مثلما هي في نسخته الحديثة، فقد عاشت طبقات وطوائف مختلفة في الحي القديم الذي اشتمل على خدمات بيروقراطية وأسواق شعبية ومحطات سفر ولهجات محلية متنوعة ومحلات بيع بالتجزئة وحتى البارات ومناطق الترفيه الرخيصة. وفي المقابل، تم استبدال هذه العوالم القديمة بمتاجر تسوق راقية، إلى جانب فنادق وبنوك باهظة الثمن ذات طبيعة حصرية مختلفة عن فكرة “بوتقة الانصهار” التي تجمع الجميع.
المصدر : الجزيرة