تضج الصحف ووسائل الإعلام بتصريحات متناقضة بشأن احتمال توصل الولايات المتحدة إلى اتفاق إطار مع إيران بشأن برنامجها النووي في نهاية الشهر الجاري. وفيما يبدو واضحاً أن طهران تريد اتفاقاً وتسعى إليه، لا يزال موقف واشنطن ضبابياً متردداً وبدون أفق.
ويبدي المسؤولون الإيرانيون تفاؤلهم بإمكانية تحقيق مثل هذه الخطوة غير المسبوقة بالنسبة لنظام الملالي الذي يطمح إلى تكريس نفسه قوة إقليمية مهيمنة، عبر امتلاك السلاح النووي، وللتأكيد أنه قادر على الصمود، على الرغم من العقوبات الاقتصادية الخانقة التي تكاد تشل طاقات إيران الإنتاجية ومقوماتها الحياتية. وتقوم القيادة الإيرانية، في الفترة الأخيرة، بحملة ترويج، باتباع تكتيك ذكي، يقوم على إظهار حسن النية، وتكثيف التصريحات المتفائلة تارة، إلى درجة أن المرشد الأعلى، علي خامنئي، أثنى، أخيراً، على عمل الفريق الإيراني المفاوض. ويعقد وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، لقاءات بنظيره الأميركي، جون كيري، في جنيف وفيينا، تسبقها أو تليها لقاءات مع مجموعة “5 السبت 14-3-2015 1” (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، روسيا والصينالسبت 14-3-2015ألمانيا)، ثم تفتح مواقع التخصيب أمام فريق مفتشي وكالة الطاقة الذرية. وتارة أخرى، يطلق الجناح المتشدد، وتحديداً قيادات “الحرس الثوري”، العنان لتصريحاته النارية التي يترجمها، أحياناً، بأفعال على الأرض.
مضى على هذه المفاوضات أكثر من ستة عشر شهراً، وكانت قد انطلقت بعد تراجع إدارة باراك أوباما عن قرار شن ضربة عسكرية على النظام السوري، في سبتمبر/أيلول 2013، والتي تبعها تسليم بشار الأسد سلاحه الكيمياوي (وهل سلم بالكامل؟). وخلال هذه المفاوضات التي عرفت صعوداً وهبوطاً من دون أن تتوقف، أظهرت إيران نفساً طويلاً، وحنكة وصبراً لا يجيدهما ويتقنهما سوى حائكي السجاد الإيرانيين. فهم يفاوضون الولايات المتحدة، ويطلقون أبواقهم لشتم “الشيطان الأكبر”، ينفخون في نار الفتنة المذهبية الشيعية-السنية، ويتنطحون لمحاربة “داعش” و”النصرة”، ثم يؤوون لديهم قيادات من “القاعدة”. يتدخلون في شؤون معظم بلدان المنطقة، ويسلحون مجموعات فئوية، ويقوونها على سلطات هذه الدول، ثم يدينون التدخل الأجنبي في سورية والعراق. وهم، اليوم، يقاتلون علناً في هذه البلدان، مباشرة بعناصر وقيادات من “الحرس الثوري” الإيراني، أو عبر مليشيات شيعية تابعة لهم، مثل حزب الله اللبناني، وحزب الله العراقي ومليشيا أبو فضل العباس وعصائب الحق وغيرها. وتفيد المعلومات أنه سيتم الإعلان، قريباً، عن إنشاء حزب الله السوري.
تفعل طهران هذا كله، وتفاوض في الوقت نفسه. فماذا تفعل واشنطن، وكيف ترد؟ التردد والضياع طبعا سلوك الإدارة الأميركية في تعاطيها مع تطورات المنطقة، منذ اندلاع الثورة في سورية، في 15 آذار/مارس 2011. فتصريحات أوباما شبه الأسبوعية المطالبة بشار الأسد بالرحيل تحولت، لاحقاً، إلى الدعوة إلى الحرب على الإرهاب الذي صنعه وأطلقه النظام السوري نفسه، ولم تعد البراميل المتفجرة التي ترمى على المدنيين السوريين من أشكال الإرهاب، ولم يعد تمدد الأخطبوط الإيراني في العراق وتسللاً إلى المتوسط باتجاه سورية ولبنان، ولا نحو الخليج العربي واليمن تدخلاً واحتلالاً أجنبياً، وإنما الملف النووي هو الأساس. أي أن إدارة أوباما المرتبكة تركت الساحة عملياً لطهران، فيما دول المنطقة (العربية طبعاً) تتخبط، كالعادة، فيما بينها، و”الوحش الداعشي” ينهش في أجساد الجميع!
فجأة، “تنتبه” إدارة أوباما إلى أن من يجب تطمينه ليس إسرائيل فقط، بل وأيضاً مجموعة من الدول والمصالح والحسابات… وإذ بوزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يصل إلى الرياض، ليطلع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي على سير المفاوضات النووية مع إيران، وطمأنتهم إلى أن أي اتفاق لن يضر بمصالح بلدانهم، وليؤكد لهم أن أي اتفاق لن يسمح لإيران بامتلاك قنبلة نووية، ولن يعني تخلي واشنطن عن مصالحها الأمنية. وشدد كيري على أنه “مهما كان مصير المفاوضات النووية، فإن واشنطن ستواصل مواجهة التوسع الإيراني وعدوانيته في المنطقة، ولن تتخلى عن العمل عن كثب مع بلدان الخليج في قضايا الأمن والدفاع”.
“تصريحات أوباما شبه الأسبوعية المطالبة بشار الأسد بالرحيل تحولت، لاحقاً، إلى الدعوة إلى الحرب على الإرهاب الذي صنعه وأطلقه النظام السوري نفسه”
ولكن التوسع الإيراني قائم على قدم وساق! وإذا كان لدى واشنطن نفسها أي شك في ذلك، فهذا كلام المستشار الأول للرئيس الإيراني، حسن روحاني، علي يونسي، الوقح الذي قال إن “إيران اليوم أصبحت إمبراطورية، كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتها وثقافتها وهويتها”، في إشارة إلى إحياء الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي كانت موجودة قبل الإسلام، واحتلت العراق وجعلت المدائن عاصمة لها. وأضاف يونسي أن “جغرافيا وثقافة إيران والعراق غير قابلتين للتجزئة”، وأن كل منطقة الشرق الأوسط إيرانية، وسيتم الدفاع عنها بكل قوة لأنها جزء من إيران”، موضحاً أن بلاده “تنوي تأسيس اتحاد إيراني في المنطقة”. وأكد يونسي استمرار طهران في دعمها الحكومة العراقية في مختلف المجالات، عبر وجودها العسكري في جبهات القتال مع القوات العراقية التي تحارب تنظيم “الدولة الإسلامية”. وكذلك في سورية التي بات يوجد فيها “الحرس الثوري” على كل الجبهات الجنوبية والشمالية، وبطبيعة الحال دمشق، جنبا إلى جنب مليشيا حزب الله.
ويصبح السؤال الأساسي والمفصلي هو على ماذا تفاوض واشنطن طهران؟ وعلى أي ميزان قوى تراهن لإجبارها على تقديم تنازلات في ملفها النووي؟ فهي، اليوم، ممسكة بمصير المنطقة، تتقدم على كل الجبهات، في العراق، حيث يقود قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، معركة تحرير تكريت (السنية) إلى جانب قوات الحشد الشعبي الشيعية. وفي سورية، تمسك بالأرض من القنيطرة إلى مشارف حلب، وبالقرار السياسي والعسكري، فيما بشار يتلهى بتصريحاته العنترية. وفي لبنان، يمسك حسن نصر الله القرار السياسي، وبعض الأمن، معطلاً المؤسسات، ويهدد بفتح الجبهة اللبنانية، دعماً لجيش النظام السوري. وفي اليمن، احتل “أنصار الله” الحوثيون العاصمة صنعاء، وهم يمسكون بمفاصل الدولة والقرار، ويهددون أمن السعودية و… أم إن واشنطن تسعى إلى كسب الوقت، بانتظار معرفة مصير “ولي الفقيه” خامنئي؟
سعد كيوان – العربي الجديد