فرضت روسيا خلال الأعوام الثلاثة الماضية نفسها كرقم أساسي في الشرق الأوسط، في ظل علاقات جديدة تقودها مصر ودول الخليج مع موسكو، أعادت المنطقة إلى مرحلة الثنائية القطبية بعد عقدين ونصف العقد على انتهائها.
وباتت سياسة موسكو في عهد الرئيس فلاديمير بوتين تمثل الفعل، بينما أضحت سياسة العواصم الغربية غارقة في رد الفعل للتعامل مع الحقيقة الاستراتيجية الجديدة التي تفرضها “عقيدة بوتين”.
وبعد أكثر من عقدين من التهميش والإقصاء في منطقة الشرق الأوسط، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينات القرن الماضي، قادت سياسات حاسمة يعتمدها الكرملين، منذ التدخل العسكري في الصراع السوري عام 2015 إلى إعادة تموضع روسيا إقليميا، إلى جانب حاجة دول المنطقة إلى الدور الروسي ليعيد بعضا من التوازن إثر فترة التخبط الأميركي الأوروبي.
ويقرأ محللون روس ما يطلقون عليه صفة “التحولات النفسية” في علاقة المنطقة العربية بروسيا. ففيما كانت علاقة موسكو أيام الاتحاد السوفييتي مع العالم العربي تقتصر على ما كان يعرف بالأنظمة “التقدمية” والثورية والقومية، وفيما كانت أنظمة المنطقة بيسارها ويمينها تسعى، وأحيانا من خلال التقرب إلى موسكو، لنسج العلاقات مع الولايات المتحدة، باتت العواصم العربية، بما فيها تلك المتحالفة تاريخيا مع واشنطن، تنشط لتطوير علاقاتها مع روسيا بوتين.
ويعترف مايكل بيرلي الكاتب في صحيفة “التايمز″ البريطانية أن صورة روسيا في الشرق الأوسط أصبحت أكثر بروزا ووضوحا منذ أن بدأت ضرباتها الجوية على سوريا منذ عامين، مضيفا أن “الأمر لا يقتصر على الطائرات المروحية والمقاتلات والدبابات والغواصات”.
وإذا ما كان الموقف الروسي من الشأن السوري جاء معاكسا لموقف عواصم عديدة في المنطقة تعادي نظام الرئيس السوري بشار الأسد، فإن بيرلي يرى أن “نفوذ بوتين ووزير خارجيته سيرجي لافروف ينتشر في المنطقة”.
ويعتبر بيرلي أن أنظمة الحكم في مصر والسعودية وإسرائيل وإيران رغم تبايناتها، باتت تعتبر “موسكو قبلة” وتسعى لتطوير التحالف معها.
ويقول دبلوماسيون عرب إن السياسة الروسية بدت أكثر إدراكا لمنطقة الشرق الأوسط وأكثر معرفة لحساسياتها وتناقض مصالح وأمزجة دولها.
وأكد الدبلوماسيون أن موسكو اقتربت بحذر من منطقة كانت تعتبر فضاء أميركيا أوروبيا، ولم تستخدم تفوقها العسكري النوعي في سوريا لإظهار أي استعلاء على بقية العواصم، بل حافظت على دعوتها لتطوير العلاقات مع كافة دول المنطقة، لا سيما دول مجلس التعاون الخليجي.
ورغم أن بيرلي يرى أن “بوتين يهدف إلى الحد من نفوذ الولايات المتحدة والغرب في المنطقة”، يؤكد دبلوماسيون أن موسكو تتقدم، كما هو الحال في سوريا، بالتنسيق مع واشنطن وليس ضد مصالحها.
ولفت بيرلي إلى أنه “على الرغم من الدور المثير للاضطرابات والقلاقل الذي لعبته روسيا في البلطيق وجورجيا وأوكرانيا، إلا أنها تتبنى في الشرق الأوسط دورا يؤيد الاستقرار والإبقاء على الوضع الراهن”، إضافة إلى “معارضة التدخل الغربي والثورات الداخلية في المنطقة”.
ويرى بوتين أن الفوضى التي سببها “الربيع العربي” تشكل تهديدا على الأمن الروسي الاستراتيجي المباشر، وأن تدخل موسكو في الحرب السورية كان ينطلق من حوافز دفاعية روسية لحماية أمن روسيا.
ويعتقد بيرلي أن “أحد أهداف بوتين هو الحيلولة دون عودة نحو 3200 مسلح روسي يقاتلون مع داعش إلى روسيا حتى لا يثيروا المشاكل والفوضى على الأراضي الروسية”.
ويلفت إلى أن “العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على موسكو حدت من التدفقات المالية على روسيا، ولكن موسكو رحبت باستثمارات دول مجلس التعاون الخليجي التي وجدت في روسيا حليفا ضد تقلبات السياسة الأميركية”.
وتتطور علاقة موسكو بدول الخليج بوتيرة متسارعة وبحرص من قبل العواصم الخليجية، رغم ما كان يمكن أن يسببه موقف بوتين من المسألة السورية وتحالف روسيا مع إيران من تعطيل لتطوّر أي علاقات خليجية روسية.
ولاحظ بيرلي أن “دول الخليج وجدت أن بوتين وفيّ لحلفائه، كما هو الحال في دعمه للرئيس السوري بشار الأسد، كما أنه أقل تطرفا من الرئيس الأميركي دونالد ترامب”.
وتقول مصادر في روسيا إن بوتين يسعى لشراكة دولية إقليمية لإرساء السلم في سوريا، وأنه مدرك أن تفوقه العسكري لا يمكن أن يؤمّن الهدوء والاستقرار الضروريين لفتح ورش الإعمار دون موافقة ومواكبة من كافة دول المنطقة والعالم المعنية بالشأن السوري.
وترى هذه المصادر أن عملية أستانة ومداولات موسكو مع عواصم المنطقة لفرض مناطق خفض التوتر هي نماذج للحنكة التي تتولى بها روسيا المعضلة السورية.
ويقول بيرلي في “التايمز″ إن روسيا تريد الحصول على جزء كبير من نحو 200 مليار دولار يُتوقع إنفاقها على إعادة إعمار سوريا. كما أنها تريد استقرار أسعار النفط بدلا من زيادتها، وإنها لهذه الأسباب “تحاول خطب ودّ السعودية”، في وقت تسعى فيه موسكو لبيع مفاعلات نووية في منطقة تحاول تنويع مصادر دخلها ومصادر الطاقة بعيدا عن النفط.
ويبرز الاستفتاء الأخير على استقلال إقليم كردستان العراق كامتحان جديد لكيفية إدارة موسكو مقاربتها للأمر في ظل ما تمتلكه من علاقات مع تركيا وإيران والعراق.
ويكشف بيرلي أن موسكو تمتلك استثمارات تصل قيمتها إلى أربعة مليارات دولار في قطاعي الغاز والنفط في كردستان العراق، وهو أمر تطلب موقفا روسيا محايدا دون أن يكون متعارضا مع مواقف أنقرة وطهران وبغداد وبقية دول المنطقة.
العرب