عسكرة التعليم
رنا قباني ـ القدس العربي: «قباني!»، كانت تصرخ بصوتها العاصف كلما دخلت على الصف في ساعة درس «الفتوة»، تمشي كعقيد معقد
نفسياً بين دفاترنا وضفائرنا وأحلامنا، لتشدني من شعري وتأخذني بالقوة الى مرحاض المدرسة، الذي كان أقل قذارة من أسلوبها في التعامل. كنت أنتمي لعائلة معروفة باخلاصها باهظ الثمن عبر أجيال لبلدنا، فقررت تلك المسكينة ذات الحقد الحاد ان تجعل مني درساً للبنات البرجوازيات الموجودات في صف الحادي عشر الأدبي في دمشق. كانت بنات صفي يرتجفن من الخوف عند رؤيتها، بالرغم من انها لم تكترث الا برأسي، الذي عودتنا ان تغرقه يوميا تحت سيفون الماء بلذة المنتقم الفائز. فقد قررت ان بنات طبقتي كن يصففن شعرهن عند الحلاق، ولم تصدق احتجاجي انني لم أدخل مثل هذا المكان في حياتي، وان خصلات الشعر الملفوفة التي اغضبــــتها الى هذا المستوى كانت طبيعية ومن خلق الله.
لم ندرك، الا بعد مرور عقود عصيبة، كم كانت مدربتنا معلمة فاشلة ومقاومة جوفاء، وإحدى الأكاذيب الكثيرة التي اخترعها الطاغية، وفي هذه الحالة بالذات، لعسكرة التعليم.
هذه الممارسة الإجرامية فرضت علينا بالكلاشنيكوف الروسي، الذي كنا نتمرن على فكه وتنظيفه واستعماله، ونحن نزحف على بطوننا، في معسكرات ابتكرت لهذه الغاية في ريف دمشق. كان يقال لنا وقتها (لتخويف الضعيفات بيننا على ما أظن) ان مكان وجودنا سيقصف من قبل «العدو الصهيوني»، لأن قائدنا كان «يمانع» كيانه عكس باقي الحكام العرب. هل كان بإمكاننا استيعاب ان المنطقة نفسها ستصبح فيما بعد مقابر جماعية لمئات الأطفال الذين قتلوا بغاز السارين من قبل نظام بشار الأسد الشنيع؟ وقتها، كان هذا الصبي المهزوز ما زال يركب دراجته الحمراء في حديقة من حدائق العاصمة، وأسنانه اللبنية لم تسقط كلها من فمه، لتأخذ مكانها أنياب قاتل الأطفال.
مشروع عسكرة التعليم لم يلجمه ابداً التفصيل الهام التالي: ان العقل السوري كان المبتكر الأول للأبجدية، والمبدع في الإجتهاد والمعرفة خلال آلاف السنين. نظامنا الفاشي ادعى، في مناهج لم تدخل سوى الجهل والعنف الى كتبنا المدرسية، محاربة عدو خارجي شرس (بوسائل إعلامية بدائية في غسل دماغ المواطن) ليشن على العكس تماماً حربه الهوجاء على تقاليد ثقافتنا المركبة؛ المقطرة من خلاصات كل حضارات العالم التي داست ترابنا البليغ، لتغرس فيه وتحصد منه. تعليم اللغات الأجنبية الغي تماماً، فالجيل الذي كان يعرف التركي العثماني والفرنسي والإنكليزي والألماني، وجد الجيل الذي جاء بعده، بالكاد يتعلم قواعد العربية.
منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كان المنهج المتبع في وزارة التربية هو إعطاء «حبوب الهلوسة» (واستعمل هنا التعبير الذي اصبح محبباً الى الدكتاتور اثناء ربيعنا العربي) للطلاب والطالبات أثناء درس «التربية القومية»، التي أصبحت أهم مادة في البرنامج التعليمي كله. فلا نجاح ولا ترفع الى صف أعلى، مهما كان مستوى التفوق العام للتلاميذ، لمن يرسب في هذه المادة ـ ولا دخول لجامعة على الإطلاق. وقد يتساءل المرء ماذا كانت محتويات تلك المادة التي أصبحت أساسية الى هذا الحد، والتي صار بإمكانها تغيير مجرى حياة بأكملها، أو تهجير أدمغة سورية بعشرات آلافها؟
كانت تحتوي خطابات «القائد الى الأبد»، الفيلسوف الفلتة حافظ الأسد.
ولا غرابة في أننا سرعان ما اكتشفنا ان هذه المادة كانت من ابتكار رومانيا الشيوعية، ودكتاتورها المريض الجشع نيكولاي تشاوشيسكو، الذي كان المثل الأعلى عند عسكري من ضيعة القرداحة السورية، ليصبح بعد انقلابه بقليل معلمه الأساسي في كيفية السيطرة الكاملة على الشعب، وصديق عائلته الحميم، والمثال المتبع، في تفريغ العقل وتجويع المواطن وتشجيعه على إنجاب الكثير من الأطفال (ستة على الأقل، ليأخذ «جائزة» تتألف من معاش هزيل مبكٍ)، لكي لا يلتهي أبدا الا بكيفية تأمين لقمة العيش، وثمن الوقود للتدفئة في الشتاء.
رغم وجود عشرين ألف مدرسة على الأقل في سوريا، بنيت أكثرها قبل مجيء حزب البعث، ورغم مشاريع «محو الأمية» التي ألزمت الأهل ان يبعثوا أولادهم وبناتهم الى المدارس، احياناً حفاة وبلا طعام كاف، حتى الصف الثالث وإلا فالحبس ينتظرهم (والحبس كان وما زال الحل لكل شيء في بلدنا المقموع بالنار الهارية)؛ رغم التعليم الذي أصبح مجانيا، ولكن لم يعد راغبا في اي تطور، ولا حتى قادرا على استيعاب كمية الطلاب الهائلة التي سببها الإنفجار السكاني التشاوشسكي/الأسدي، الذي جعل من سوريا عظيمة الطاقات بلدا يعيش تحت خط الفقر الهابط دوماً؛ رغم ان الأطفال والكبار علموا كيفية فك الحرف ولا أكثر، عسكرة التعليم كان هدفها تدمير اللحمة الوطنية (فالطالب كالاستاذ صار مجرد مشروع مخبر على رفاقه عند أحقر فرع مخابرات).
الآن المدارس الخاصة وجدت ليتاجر باقساطها تماسيح النظام، والمدارس العامة أصبحت فروع تحقيق او دمرت بالبراميل المتفجرة مع من فيها من طلابها، جيل كامل من الاطفال سيربى تحت الخيم ومن دون اي تعليم. نرى الخراب الهائل للمؤسسات الدراسية التي قصفت بالطيران الحربي، لنتذكر ان تخريب العلم لدينا عمره من عمر الفاشية البعثية الأسدية، وانه بالرغم من ذلك، كان محرك الثورة السورية هي كلمات صبيان على حائط مدرسة، قالوا الكلمات التي طالما انتظرها وينتظرها شعبنا:
«جاييك الدور، يا دكتور»!