تمضي السلطات المصرية في عمليات إزالة وتهجير سكان منطقة عزبة المدابغ في جوار سور مجرى العيون في حيّ مصر القديمة، وذلك في إطار المشروع القومي والحضاري لإعادة تنظيم المنطقة وفقاً لمخطط محافظة القاهرة لتطوير العشوائيات. ووسط حضور مكثّف لأجهزة حيّ مصر القديمة والقيادات التنفيذية والشرطة، أُجبرت 17 عائلة على إخلاء بيوتها فيما هُدمت سبعة بيوت أخرى، في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، على أن تستكمل الجهات التنفيذية إزالة البيوت وإخلاء المنطقة كلياً بالإضافة إلى إعادة إسكان العائلات في وحدات سكنية بحيّ الأسمرات أو في وحدات أخرى بمدينة 6 أكتوبر أو في مدينة بدر.
وفي الخامس من سبتمبر/ أيلول الماضي، بدأت قوات الأمن المصرية أعمال الإزالة والهدم في المنطقة، استئنافاً للمرحلة الأولى من خطة الحكومة، فهُدمت تسعة منازل وشُرّد سكّانها من دون تعويضهم. وبذلك تكون مخالفة لقرار محافظ القاهرة رقم 9500 لسنة 2018 المنشور في جريدة “الوقائع المصرية” في عددها رقم 30 الصادر في السادس من فبراير/ شباط 2019، بشأن إعلان منطقة المدابغ (سور مجرى العيون) في حيّ مصر القديمة، محافظة القاهرة، منطقة “إعادة تخطيط” مع التأكيد على تعويض الأهالي وتوفير وحدات سكنية بديلة للمتضرّرين في حيّ الأسمرات أو مدينة بدر.
يفيد الأهالي بأنّ لجان حصر تابعة لجهات حكومية زارت المنطقة في يناير/ كانون الثاني الماضي لإحصاء الملاك والساكنين تمهيداً لنقلهم إلى وحدات سكنية بديلة في مقابل إيجارات رمزية. لكنّ منظمات حقوقية كشفت أنّها تلقّت شكاوى خاصة بعدم أخذ أصحاب الأعمال والمحلات التجارية والورش الفنية في عين الاعتبار، وذلك مع تأكيد السلطات عزمها إزالة المنطقة بالكامل، الأمر الذي يترك أهالي كثيرين وأصحاب مصالح تجارية في قلق إزاء مصيرهم بعد الإزالة، في ظلّ غياب البدائل المطروحة أمامهم وعدم السماح لهم بالمشاركة في مخططات تطوير مناطقهم. وقد أخلى بالفعل السكان بمعظمهم بيوتهم والعمّال ورشهم خوفاً من القمع والملاحقة الأمنية.
وكان مجلس الوزراء المصري قد وافق في الرابع من سبتمبر/ أيلول الماضي على تخصيص 1008 وحدات سكنية في مدينة بدر، لمصلحة صندوق تطوير المناطق العشوائية لإسكان أصحاب الحرف والعاملين في دباغة الجلود والغراء في المنطقة المستهدفة، وذلك في إطار جهود الدولة للقضاء على المناطق غير الآمنة وفقاً لتوجيهات القيادة السياسية في هذا الشأن. وفي أعقاب قرار مجلس الوزراء بشأن إخلاء منطقة عزبة المدابغ من قاطنيها، صدرت إدانات حقوقية لهذا القرار والمهلة السريعة المحدّدة لتنفيذه. فطالبت السلطاتِ المصرية بالوقف الفوري لأعمال الإخلاء القسري لأهالي عزبة المدابغ وضمان مشاركة أهالي المنطقة والمتضررين من عمليات الإخلاء في قرارات التنمية والتطوير في مناطق سكنهم وأعماله
من جهتها، طالبت المفوضية المصرية للحقوق والحريات (منظمة مجتمع مدني مصرية) بإعطاء سكان المنطقة فرصة كافية للخروج من المنطقة وترتيب أولويات حياتهم ومعيشتهم، وشدّدت على مسؤولية الحكومة المصرية في ضمان توفير بدائل سكن عادلة وملائمة لظروف عملهم ومعيشتهم. وشدّدت كذلك على مسؤولية السلطات المصرية في ضمان توفير بدائل ملائمة للسكن ولأصحاب الأنشطة التجارية والحرفية والزراعية في المناطق التي تعتزم تطويرها، وذلك من خلال إشراك أهالي تلك المناطق وبالتشاور معهم. وأعادت المفوضية تذكير السلطات المصرية بالتزاماتها الدستورية تجاه حقّ المواطنين في السكن الملائم والآمن والصحي بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية، وذلك وفقاً للمادة 78 من الدستور المصري لعام 2014.
والتعليق العام رقم 7 لسنة 1997 الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قد نصّ على أنّه يتعيّن على الدول الأطراف بالعهد، قبل القيام بأيّ عمليات إخلاء للسكان، التأكد من أنّه تمّ البحث في كل البدائل المتاحة، وذلك بالتشاور مع المتضررين، بغرض تجنّب استخدام القوة، أو على الأقل الحد من الحاجة إلى استخدامها. وأكّد التعليق كذلك ضرورة ضمان الدولة سبل الانتصاف للمتضررين من أوامر الإخلاء، وهو ما أكدته أيضاً المادة 2 (3) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.
وممّا جاء في تعليق اللجنة كذلك أنّه يتعيّن على الدول الأطراف أيضاً ضمان حقوق جميع الأشخاص المتأثرين بأوامر الإخلاء في التعويض الكافي والعادل عن أيّ ممتلكات قد تضررت، شخصية كانت أو عقارية. وشدّدت اللجنة على ألا تسفر عمليات الإخلاء عن تشريد الأفراد أو تعرضهم إلى انتهاك حقوق الإنسان الأخرى. وفي الحالات التي يكون فيها المتضررون غير قادرين على إعالة أنفسهم يجب على الدول أن تتّخذ كل التدابير المناسبة، وبأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة، لضمان إتاحة السكن البديل اللائق أو إعادة التوطين أو الوصول إلى الأراضي المنتجة، بحسب ما تكون الحالة.
في الإطار نفسه، أكدت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنيّة بالحق في السكن اللائق، ليلاني فرحة، في معرض تقريرها الختامي حول زيارتها إلى مصر في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أنّ الإخلاء بالإكراه هو انتهاك جسيم للقانون الدولي لحقوق الإنسان. وذكرت أنّه وصلت إلى علمها شكوى بعض الأهالي الذين أعيد إسكانهم في بعض الأحياء (مثل حيّ الأسمرات) التي تبعد عن أماكن سكنهم الأصلية، ما يشكّل تهديداً للنسيج الاجتماعي الخاص بهم ولمصادر كسب أرزاقهم، مشدّدة على ضرورة ضمان التعويضات المناسبة والسكن الملائم المتّسق مع المعايير الدولية قبل بدء تنفيذ عمليات الإخلاء.
وتقضي خطة الحكومة بعد إخلاء منطقة عزبة المدابغ بتحويلها إلى مرفق سياحي تُستعاد فيه القاهرة التاريخية القديمة التي تحتضن مناطق الفسطاط وعين الحياة وعين الصيرة وسور مجرى العيون والمدابغ، بعد انتشار المناطق العشوائية فيها. وسوف تُنشأ منطقة ترفيهية ومطاعم وحدائق، منها ما يمتدّ على طول السور، بالإضافة إلى مسارح ودور سينما وسوق للكتاب ومناطق خدمات صحية. كذلك سوف يُقام متحفان في المنطقة الترفيهية في موقع المدابغ وجنوبي السور، يستعرض الأوّل تطوّر الدباغة وصناعة الجلود والثاني أفكار الهندسة الهيدروليكية في زمن إنشاء السور.
منطقة أثرية مهددة
تُعَدّ عزبة المدابغ أقدم منطقة لدباغة الجلود في مصر، وتضمّ عدداً من المباني السكنية التي كانت تؤجّر لأهالي مرضى السرطان، إذ إنّها تقع بالقرب من مستشفى سرطان الأطفال 57357. من جهة أخرى، يعبّر علماء آثار كثيرون عن مخاوفهم على هذه المنطقة التي تحوي آثاراً كثيرة قد تدمَّر أو تتلف عند إزالة المساكن ومواقع العمل، ولعلّ أبرزها سور مجرى العيون.