تحاول واشنطن الاستفادة من ثقل أنقرة وإمكانية دفعها للعب دور يسهل توسيع النفوذ الأميركي في المنطقة من خلال تنفيذ الحد الأدنى من مطالبها وإعطائها التطمينات اللازمة.
بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مدينة الطبقة السورية، والقرار الأميركي بتسليح تلك القوات، بات الطريق ممهدا لمعركة الرقة رغم الاعتراضات التركية التي يبدو أن الإدارة الأميركية تعمل على علاجها بمقايضات جزئية بدلا من التجاهل التام الذي اتبعته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.
كما هي جميع معارك قوات سوريا الديمقراطية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لم تكن استعادة مدينة الطبقة معركة سهلة المنال. فرغم الدعم الأميركي الكبير والذي لا يتوفر لأي طرف من أطراف الحرب في سوريا، احتاجت قوات سوريا الديمقراطية نحو شهرين للسيطرة على هذه المدينة الصغيرة. وقبل ذلك احتاجت تلك القوات أشهرا طويلة للسيطرة على مدينة منبج من تنظيم الدولة. وهو ما يعيد طرح التساؤل حول الإصرار الأميركي على التعامل مع تلك القوات رغم تواضع قدراتها القتالية من جهة، ورغم إثارتها لمخاوف السوريين العرب في شمال سوريا ومخاوف تركيا من جهة أخرى.
عندما قررت الإدارة الأميركية الجديدة لعب دور أكثر فاعلية من الإدارة السابقة، لجأت إلى خبرة الجيش الأميركي في العمل مع قوات سوريا الديمقراطية والأكراد لتكوين فهم جيد عن تلك القوات. كما استفادت من جهاز الاستخبارات الأميركي الذي جمع معلومات تفصيلية حول الفصائل السورية المسلحة وعمل على تدريب وتسليح بعضها. ويبدو أنها وصلت إلى أن درجة تشتت فصائل المعارضة السورية واعتمادها على الروابط التقليدية في تشكيلاتها العسكرية بدل وجود عقيدة عسكرية موحدة ومركزية أفقدها أي إمكانية لتكون شريكا مناسبا. تضاف إلى ذلك الصلات الوثيقة بين معظم تلك الفصائل وعدد من الحركات الجهادية وهو ما يجعل العمل معها كشريك على الأرض غير ممكن بالنسبة إلى الأميركيين. ومن هنا، ورغم أن قوات سوريا الديمقراطية لا تشكل أكبر قوة قتالية، ولكنها اعتبرت الشريك الوحيد ضمن أجواء الفوضى في شمال سوريا. هكذا قررت واشنطن تعزيز دعمها لتلك القوات وصولا إلى قرارها بتسليحها بصورة تمكنها من تسريع معركة الرقة.
وكانت لدى الولايات المتحدة عقبة وحيدة تتمثل باعتراضات تركيا. وبعكس إدارة أوباما التي اختارت تجاهل مخاوف الأتراك بصورة تامة، تحاول إدارة دونالد ترامب اتباع منهجية أكثر انفتاحا على مخاوف أنقرة مع تمسكها بذات الوقت بدعم الأكراد في سوريا. بهذا المعنى، تحاول واشنطن الاستفادة من ثقل أنقرة وإمكانية دفعها للعب دور يسهل توسيع النفوذ الأميركي في المنطقة من خلال تنفيذ الحد الأدنى من مطالبها وإعطائها التطمينات اللازمة.
جاءت التطمينات عندما أعلن وزير الدفاع مؤخرا اتفاق واشنطن مع أنقرة بشأن المخاطر التي يشكلها حزب العمال الكردستاني على الأمن القومي التركي. كما أعلن بصورة واضحة عن دعم تركيا في حربها ضد حزب العمال الكردستاني. على أن التطمين الأهم جاء من خلال إعلان قيادة التحالف الدولي أن القوات التي ستحاصر الرقة ستكون غالبيتها من العرب السوريين. وتبع ذلك توسط الإدارة الأميركية قبل يومين باتفاق تقوم بموجبه قوات سوريا الديمقراطية بإعادة بلدات ذات غالبية عربية سبق أن سيطرت عليها إلى فصائل من الجيش الحر تدعمها تركيا.
ضمن هذا السياق، تبدو أميركا وكأنها تتبع الإستراتيجية الروسية في التعامل مع تركيا. أدركت روسيا أن تركيا قد خسرت الحرب في سوريا إذ لم تتمكن الفصائل التي تدعمها من تحقيق هدفها في تغيير النظام من جهة، ولا هي تمكنت من تشكيل بديل سياسي- عسكري بسبب تشظيها واحتفاظ معظمها بصلات وثيقة من التنظيمات الجهادية، ولكن الواقعية الروسية فضلت تقديم عرض لا يمكن رفضه لأنقرة. ويتعلق بمساعدتها في تعزيز أمنها القومي في شمال سوريا بدعم عملية درع الفرات التي أتاحت لها السيطرة على كامل الشريط الحدودي، وذلك مقابل تخليها التام عن أي مشروع سياسي في سوريا ودعم الجهود الروسية.
اليوم تكرر الإدارة الأميركية أمرا مشابها. ففي حين تلتزم بدعم الأكراد السوريين الذين يعتبرون بوابة عودة تدريجية للنفوذ الأميركي، لكنها مستعدة للتعاون مع تركيا في ما يتعلق بمسألة محددة هي أمنها في شمال سوريا والمسألة الكردية بصورة عامة. ومع الاتفاق الذي توسطت فيه أميركا والذي تتخلى بموجبه قوات سوريا الديمقراطية عن أكثر من عشر مناطق ذات غالبية عربية، ستتوسع منطقة نفوذ تركيا في شمال سوريا.
ولكن تركيا لم تعد محاصرة كما كانت من قبل عندما أبرمت الاتفاق مع روسيا. خلال الأشهر الماضية، تعززت العلاقات التركية الروسية وتوصل البلدان إلى تفاهمات تتعلق بالحرب السورية. وهو ما يمكنها من رفض العرض الأميركي غير السخي، واتباع طريق آخر، ربما تفضله روسيا، يتضمن عرقلة مساعي واشنطن لتعزيز نفوذها في سوريا عبر مهاجمة قوات سوريا الديمقراطية.
كاتب فلسطيني سوري