لا يزال العرب العمانيون المولودون في زنجبار -ممن طردهم المتمردون الأفارقة عام 1964- يحاولون تقبل فقدان وطنهم الأفريقي السابق، رغم مرور أكثر من نصف قرن منذ أن أجبرتهم الثورة على مغادرة وطنهم في شرقيَ أفريقيا.
وفي تقريرهما الذي نشره موقع “ميدل إيست أي” البريطاني، قال الكاتبان سيباستيان كاستيليه وكوينتين مولر إن عُمان -التي كانت تضم مستشفى واحدا فقط وثلاث مدارس ابتدائية آنذاك- تحولت بشكل جذري، في المقابل لا يزال العمانيون من زنجبار يصارعون الذكريات والصدمات.
وكان سلطان عمان السيد سعيد بن سلطان يحكم بلادا مترامية الأطراف تمتد من مشارف شبه القارة الهندية حتى بحيرات أفريقيا الوسطى، وأقام في زنجبار التي كانت العاصمة الثانية لبلاده.
لكن نشبت أزمة بين ابنيه بدأت عام 1856 واستمرت خمس سنوات، وانقسمت السلطنة -بحسب التحكيم الإنجليزي الذي اتفق عليه الطرفان- إلى جانب أفريقي هو سلطنة زنجبار بزعامة السلطان ماجد بن سعيد، وجانب آسيوي هو سلطنة عُمان بزعامة السلطان ثويني بن سعيد.
وتتمتع عُمان بصلات تجارية مع المنطقة تعود إلى قرون، حيث وُلد أكثر من مئة ألف عماني في شرق أفريقيا أو لديهم روابط عائلية هناك.
ويتحدث الزنجباريون العمانيون اللغة السواحيلية، وهي لغة البانتو التي أُثريت بالمفردات من العربية والألمانية والبرتغالية والإنجليزية والهندوسية والفرنسية على مدى قرون من الوجود الاستعماري في المنطقة.
سلطنة عربية أفريقية
وأفاد الكاتبان بأن العمانيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حكموا إمبراطورية بحرية قوية، شملت الساحل الشرقي لأفريقيا والسواحل الشاسعة للخليج وجنوب غربي إيران.
وفي عام 1840، أصبحت ستون تاون في زنجبار عاصمة الإمبراطورية ومركزا لوجستيا يربط شرق أفريقيا بالعالم الأوسع.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبحت زنجبار سلطنة تحت الحماية الإمبراطورية البريطانية، وحكم السلاطين والسياسيون العمانيون أغلبية السكان الأفارقة، لكن انتهت هذه الحقبة عام 1964 بثورة زنجبار عندما أُطيح بالسلطان العربي.
مقتلة العرب
وفسر الكاتبان أن الثوار الأفارقة قتلوا ما بين خمسة آلاف إلى 15 ألف عربي وسجنوا الآلاف خلال ثورة زنجبار، وذلك بحسب المصادر الأكاديمية. ويتذكر الفنان العماني المولود في زنجبار مدني البكري أن “الثوار الأفارقة قتلوا عمتي التي كانت حاملا، وبقروا بطنها وانتشلوا الرضيع”.
وبيّن الكاتبان أن البكري الذي يكتب الخط العربي فضلا عن رسم المناظر الطبيعية في زنجبار، غادر الجزيرة عام 1971. وفي هذا الصدد، قال البكري “في يوم الثورة، استيقظت ورأيت البنادق في جميع أنحاء مائدة غرفة المعيشة. تساءلت عما يجري. ومع ذلك طلب مني أبي أن أذهب لتسليم الحليب لعملائنا”.
وأضاف البكري أنه عندما وصل إلى الشارع، رأى رجلا هنديا يركب دراجة نارية وهو يصرخ “إنهم قادمون”، لكنه لم يرد الهرب حتى لا يعتقد الناس أنه خائف. وعندما رأى رجلا عمانيا يحمل بندقية لحماية الشارع، اختبأ في منزله.
وقال البكري إنه قد أُلقي القبض على والده أثناء الثورة، واحتُجز مرتين مدتهما ثمانية أشهر وستة على التوالي. في المقابل، اتخذ البكري قرارا بالهروب من زنجبار عند سجن والده للمرة الثالثة.
بنقوشها المميزة.. أبواب زنجبار رمز لثقافة شرق أفريقيا (الأناضول) |
قصة الغساني
أشار الكاتبان إلى أن الأزمة منذ عام 1964 دفعت آلاف الأسر العربية إلى الطرف الآسيوي من السلطنة العمانية، في رحلة استمرت سنوات طويلة نحو وطن أجدادهم. ومع ذلك، كان السلطان العُماني في ذلك الوقت سعيد بن تيمور يخشى من التأثيرات الخارجية، ويحظر عودة معظم العمانيين المولودين في شرق أفريقيا.
ونقل الكاتبان ما جاء على لسان حارث الغساني المولود في زنجبار، حيث أفاد قائلا “لقد علمت أنني من بلد يدعى عُمان، لكنني لم أفكر في العودة إليه”.
وفي عهد السلطان سعيد بن تيمور، كانت الحياة في سلطنة عمان في غاية البساطة، وكشف الصحفي إيان كوبين من صحيفة الغارديان أنه كان ممنوعا هناك امتلاك أجهزة الراديو وركوب الدراجات وارتداء النظارات الشمسية أو الأحذية أو السراويل، بالإضافة إلى استخدام المضخات الكهربائية في الآبار.
وأفاد الكاتبان بأن الغساني ولد في زنجبار عام 1958، حيث كان والده وكيل وزارة الزراعة. وفي هذا السياق، صرح أن والده كان من عائلة كبيرة في زنجبار ولم يغادر البلاد بعد الثورة.
وأورد الكاتبان أن العمانيين المولودين في شرقي أفريقيا بدؤوا العودة بعد أن منحهم السلطان الجديد حينها قابوس بن سعيد الجنسية العُمانية، على الرغم من أن الرحلة إلى الوطن استغرقت سنوات.
وعاش مدني البكري في العديد من البلدان ومنها الكويت والإمارات العربية المتحدة، حتى وصل أخيرا إلى مسقط عام 1974 ليكتشف المعيشة البدائية هناك، فقد كان التناقض مع الاقتصاد المزدهر في زنجبار بمثابة صدمة للوافدين الجدد. كما يتذكر البكري عدم وجود بنية تحتية أو مدارس أو حتى طريق واحد.
البداية من الصفر
وأفاد الكاتبان بأنه وفقا لإبراهيم بن نور بن شريف البكري الأستاذ في جامعة السلطان قابوس، فقد عاد العمانيون المولودون في شرقي أفريقيا في الوقت المناسب للمساعدة على بناء البلاد، مما دفع الدولة الخليجية إلى تجربة أسرع تقدما على مستوى العالم في مؤشر التنمية البشرية خلال العقود الأربعة التالية.
ومع تدعيم سلطنة عمان لاقتصادها تدريجيا، كانت مهارات العديد من العمانيين في شرقي أفريقيا ممن تلقوا تعليمهم في زنجبار، ومن بينهم أطباء ومعلمون ومهندسون، مطلوبة. حيث تمكن الغساني الذي لم ينهِ دراسته الثانوية، من تأمين وظيفة في شركة تنمية النفط العمانية التي تعد شركة الطاقة الرئيسية في البلاد.
ميراث العبودية
وأشار الكاتبان إلى أنه بالعودة إلى زنجبار، لم يحظَ العمانيون المولودون في شرقي أفريقيا بالقبول في وطنهم السابق.
وفي هذا السياق، صرح حارث الغساني الذي يتردد بالزيارة على زنجبار، قائلا “لا يشعر الناس في زنجبار بالرضا لأننا طردنا منها منذ عام 1964 ونعود الآن بأسلوب حياة أكثر ثراءً منهم”، وأضاف أن البلد نفسه الذي ولد فيه عام 1958 يجرده الآن من إنسانيته”.
ويعود هذا التناقض إلى إرث مظلم لا يزال العمانيون المولودون في شرقي أفريقيا مرتبطين به، وذلك بسبب مزاعم متكررة حول تجارة العبيد التي يسيطر عليها التجار العرب من زنجبار.
العمانيون في زنجبار لا يزالون يصارعون الذكريات والصدمات (الأناضول) |
واستمر تصدير العبيد إلى القرن العشرين على الرغم من اتفاق سلاطين “مسقط وعمان” على إنهاء تجارة العبيد عام 1847.
ونقل الكاتبان ما ورد في كتاب المؤرخ ماثيو هوبر “عبيد لسيد واحد”، أنه جرى نقل 800 ألف أفريقي إلى الخليج العربي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وحتى الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث اختُطف أغلبهم من شرقي أفريقيا وأرسلوا إلى اليمن وعمان. ومع ذلك، لا تعد هذه الرواية للأحداث مقبولة من قبل كل الزنجباريين العمانيين.
والجدير بالذكر أن الدكتور إبراهيم بن نور بن شريف البكري وُلد عام 1941 في زنجبار، ويندرج من سلالة العمانيين الذين حكموا سابقا مدينة مركة الصومالية.
وكتب البكري كتابا باللغة السواحيلية عن تاريخ عمان، حيث يؤكد على أنه لم يكن هناك “عربي واحد” يتجول في المناطق الداخلية الشاسعة من شرقي أفريقيا للاستيلاء على العبيد، وقد نفى لموقع “ميدل إيست آي” صحة هذه الادعاءات.
محنة العرب
وفي مقاله السابق للجزيرة نت، روى أستاذ التاريخ الأفريقي والإسلامي بجامعة ميزوري الأميركية عبد الله علي إبراهيم قصصا مؤلمة من مقتلة العرب في زنجبار، معتبرا أنها لم تكن ثورة ضد سلطان العرب بل قصدت تصفية وجود العرق العربي، ووصف ما جرى بأنه تطهير عرقي ملقيا باللائمة على الحركة القومية الأفريقية المتطرفة التي ترى القارة للسود حصرا وتنظر للعرب كغزاة.
واعتبر إبراهيم أن الفكر الماركسي الزنجباري لعب دورا كذلك في سياق الحرب الباردة، بينما غلّبت القومية العربية بقيادة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر أولوية التحالف مع حركات التحرر الوطني الأفريقي على استنقاذ شعبي عربي رأت أنه ينتمي لسلاطين عرب “رجعيين”.
المصدر : ميدل إيست آي,الجزيرة