بدموع تحرق القلوب وأنفاس متنهدة أمسك عبود ذو تسعة الأعوام يد والده بقوة؛ خشية أن يذهب ويتركه وحيدا، رافضا دخول المدرسة الصيفية ليتعلم ما فاته بعد رحلة من التنقلات مع عائلته دامت ثلاث سنوات حالت دون دخوله المدرسة. ” مابدي روح ع المدرسة ما بحبا بدي ضل مع بابا وماما، بالمدرسة بتجي الطيارة والولاد بيضربوني”، لاشك أن الحرب التي اجتاحت سوريا منذ أكثر من خمسة أعوام أثرت سلبا في حياة السوريين وسببت لهم ضغوطات ومشاكل نفسية ولاسيما الأطفال، إذ إنهم الشريحة الأكثر تضررا؛ كونهم مستقبل سوريا وجيلها الصاعد.
ومع امتداد عمر الثورة السورية، التحق بركبها عدد من السوريين الذين رفضوا الذل والانقياد لسياسة النظام القمعية والوحشية، فاختاروا أن يكونوا ” ثوارا” على أن يطلق عليهم لقب شبيحة النظام الذي وصفهم بدوره أنهم مجموعة من الإرهابيين الذين يسعون لخراب سوريا وتدميرها.. متناسيا ما قام به من قصف وتشريد واعتقال. وكان أبو عبود منذ البداية ثائرا في وجه الظلم والاستبداد، وهو من أبناء مدينة حماة الأحرار ليلتحق مع الثوار ويختار طريقهم؛ عله يقدم شيئا لبلده ويساهم في تحريره من النظام، لكن حياة الترحال الدائم أثرت سلبا في عائلته وفي أطفاله خاصة لأنهم أجبروا على ترك مدارسهم كونهم لا يعرفون الاستقرار.
يقف أبو عبود بباب المدرسة بعد أن رفض ابنه دخولها ليروي لنا بعضا من آلامه :” انتقلت مع عائلتي إلى مدينة إدلب منذ شهرين، بعد أن كنا نعيش في ريف اللاذقية عندما كنت أشارك في جبهات جبلي الأكراد والتركمان، إلا أن الطبيعة الجبلية القاسية أجبرتني على القدوم لإدلب، وأشارك حاليا في القتال في جبهات حلب كونها أقرب للمدينة وأستطيع أن أرى عائلتي كل فترة”. ويضيف أبو عبود:” يعتريني الحزن كلما نظرت بأعين أطفالي، فلا ذنب لهم كي يحرموا من العلم والاستقرار، إلا أنه واجب علي أن أدافع عن بلدي وعن أرضي وشرفي، لذا اصطحبته للمدرسة الصيفية ليتعلم الكتابة والقراءة ويندمج مع أبناء جيله؛ علّه يتناسى معهم ما مر عليه من مآسٍ وأوجاع”.
تعاطفت المعلمة مع “عبود” وأدخلته رغما عنه إلى الصف وتحايلت عليه ببعض الكلمات المشجعة والحلوى، إذ أنه شديد التعلق بوالده ووالدته فحاله كحال معظم أطفال جيله ولدت الحرب في نفوسهم الغضة عقدا وأمراضا نفسية ينفطر لها القلب، تقول المعلمة :” آلمني كثيرا وضعه، فرفاقه يتبارون من يكتب الدرس ويحل التمارين بسرعة، وهو يمسك القلم ويعجز عن كتابة حرف واحد، لكنني سأعلمه الكتابة وسأحاول قدر الإمكان أن أخرجه من تلك الحالة التي أجبر على عيشها “.
يقول أبوه الذي يراقبه عن بعد والحسرة بعينيه :” كان اسم ابني بشار، إلا أنني ومنذ بداية الثورة قررت وأمه مناداته عبود، فلا يمكنني أن أناديه باسم قاتل أطفالنا ومدمر بلادنا بشار الأسد”. ما ذنب أطفالنا أن يحرموا من أبسط حقوقهم فقط لأن ما يحدث في سورية مؤامرة كونية حسبما يدعي النظام، ما ذنبهم أن تغتال براءتهم وتسلب طفولتهم ليعيش مسؤولوه حياة مترفة ويواصلوا حكم بلد لم يتبق منه سوى الدمار والخراب؟!
المركز الصحفي السوري ـ سماح خالد