في الـثلاثين من سبتمبر/ أيلول الجاري، يكون الروس أتمّوا عاماً على تدخلهم العسكري في سورية، والذي جاء إثر هزائم النظام المتكرّرة لقواته، وبشكل مذل أمام فصائل المعارضة السورية المسلحة، والتي جعلته قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، فجاء التدخل الروسي إجراءً إنقاذياً عبر مسرحية متّفق عليها مع النظام، مفادها بأنّ الحكومة الشرعية في دمشق طلبت دعماً عسكرياً من موسكو، لينعقد على إثرها، وعلى عجل، مجلس الاتحاد الروسي الذي منح الرئيس بوتين تفويضاً يستطيع بموجبه استخدام القوات الروسية خارج البلاد، بحجّة محاربة تنظيم داعش الإرهابي.
ساق الكرملين جملة من الأسباب والدوافع لتدخله في سورية، أهمها المحافظة على مؤسسات الدولة، ومنع تحوّل سورية إلى دولة فاشلة، وكذلك برّر بوتين ورؤساء أجهزته الأمنية، وفي بروباغندا إعلامية مكشوفة، أنّ هذا التدخل الاستباقي سيقطع الطريق على عودة نحو ألفي روسي وثلاثة آلاف من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق يقاتلون في صفوف “داعش”، وأنّهم يشكلون خطراً كبيراً على الأمن القومي الروسي، والاستقرار في آسيا الوسطى، في حال عودتهم من سورية والعراق، ثم انضمّ إلى الجوقة راعي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والذي أعلن عن حماسته في دعم هذا التدخل، مضفياً عليه صفة القداسة والحرب المقدسة، والذي استفز كثيراً من مشاعر شعوب المنطقة والعالم الإسلامي وأثار حفيظتها، ووصفها بعضهم حرباً صليبية أخرى، تستهدف المشرق العربي من جديد.
إنّ تدخل الروس بحجة محاربة داعش كذبة واهية، لا تستند للوقائع كون أنّ كل التقارير أجمعت على أنّ 15% فقط من الضربات الروسية استهدفت داعش، وأنّ الهدف من التدخل حماية لنظام أخذ يترنح، وكان أقرب إلى السقوط من أي وقت مضى، فبدأ القصف الوحشي عبر القاذفات الروسية العملاقة، والذي استهدف المدنيين العزّل في بيوتهم، وكذلك المدارس والمشافي والأسواق الشعبية وفصائل المعارضة السورية المعتدلة، من خلال تطبيق مبدأ غروزني وسياسة الأرض المحروقة التي نفذها بوتين في الشيشان، وهي السياسة نفسها المتبعة في سورية، منذ بداية تدخله وما زالت.
ثم تكشّفت أبعاد هذا التدخل لاحقاً، بدءاً من تصريحات المسؤولين الروس بشأن رغبة موسكو في تجريب أسلحتها الحديثة، وترويجها تجارياً ودعائياً، إذ أشار الرئيس الروسي، في مؤتمره الصحفي السنوي، في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلى “أنّ العمليات في سورية تعدّ تدريبات عسكرية ذات كلفة رخيصة في ظروف حربٍ حقيقية”، وكأنّ الشعب السوري تحوّل إلى حقل تجارب لأسلحة قادة الكرملين، على الطريقة النازية والفاشية إبّان الحرب العالمية الثانية.
ومن مجريات هذا العدوان الهمجي الروسي على الشعب السوري، يتبيّن أنّ الروس، ووفق أحد المحلّلين، تدخلوا للمحافظة على النظام ورأسه، وإجبار المعارضة والدول الإقليمية الداعمة لها على القبول بحل سياسي، وفق رؤية النظام السوري وشروطه والمصالح الروسية في سورية، وعبر فرض وقائع على الأرض، وإلا فالانتقال إلى الخطة “ب”، القاضية برسم حدود “سورية المفيدة”، وضمان مصالح الكرملين مع النظام الحالي، والمتمثلة في القاعدة البحرية في ميناء طرطوس، وعقود النفط والغاز الموقعة في نهاية 2013، لاستغلال الحقول البحرية الضخمة في مقابل الشواطئ السورية، وكذلك القاعدة الجوية في حميميم، والقواعد الأخرى المنوي إعادة تأهيلها واستخدامها لاحقاً، مثل مطار “الشعيرات” شرقي حمص.
تدخل الروس في الشأن السوري بقوة ناعمة منذ انطلاقة الثورة، وأخذوا بعقد لقاءات سابقة لتدخلهم العسكري السافر مع رموز المعارضة القريبة من النظام، للعمل على شراء الوقت مراهنين على الحسم العسكري والأمني الذي اختاره بشار الأسد منذ بداية الثورة السورية .
وحين جاء تدخلهم المباشر عبر القوة الغاشمة، تحوّلت موسكو إلى محج لقادةٍ عرب، نشدوا ودّها، وعملوا على إغرائها بحزمة عقود اقتصادية عملاقة، علّها تخفّف من اندفاعتها المسّعورة، لكن رياح الكرملين جرت بما لا تشتهي السفن العربية، إذ ظلّ الروس، ومازالوا، مصمّمين على إغراق الثورة السورية بالدماء، وفرض وجهة نظرهم على إرادة السوريين الثائرين في وجه نظام الفساد والاستبداد، والإبقاء على الديكتاتور السوري، والذي حوّلوه إلى نسخةٍ تماثل عميلهم الشيشاني رمضان قاديروف (الرئيس الشيشاني المصنوع روسياً)، إذ أذلوه كثيراً بجلبه مخفوراً إلى موسكو في اكتوبر/ تشرين الأول 2015، ومن ثم استدعائه إلى قاعدة حميميم في يونيو/ حزيران 2016 من دون معرفته من استدعاه.
والآن، وبعد ما يقرب من اكتمال السنة من هذا التدخل الاحتلالي والدموي في الشأن السوري، وبعد مباحثات مطوّلة استمرت أكثر من 14 ساعة، توصّل، في العاشر من الشهر الماضي، وزيرا الخارجية، الروسي سيرغي لافروف، ونظيره الأميركي جون كيري، إلى اتفاق للتعاون بشأن سورية، إلا أنّه لم يعمّر كثيراً، وبقيت المتغيّرات في الحالة السورية مفتوحة على الاحتمالات كافة.
العربي الجديد – مصطفى الدروبي