يتركّز عدد كبير من الانتقادات الموجّهة للمبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، عشية إتمامه عامه الثاني على مهمته، وبدء عامه الثالث، على المسيرة الدبلوماسية للرجل طيلة أربعة عقود. تقول صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية عن دي ميستورا إنه “دبلوماسي من الوزن الخفيف”، وأنّه قضى وقته يستمتع بشمس البحر بدل محاولة صنع السلام خلال مهمته في مراقبة “السلام” جنوبي لبنان بين الأعوام (2001-2004)، أي في عزّ سلطة الوصاية السورية. هذا الكلام “جرح” دي ميستورا، وفق ما ينقل عنه مقربون منه.
ويرى كثيرون أن هذا الاتهام يتضمن الكثير من الأسس حتى على صعيد السلوك الشخصي لدي ميستورا، من دون الحديث حتى عن ممارسته السياسية التي تثبت التجربة السورية أنها صبّت، إلى حد بعيد، لمصلحة النظام وحلفائه. في السلوك الشخصي، لا ينسى العالم واقعة ديسمبر/كانون الأول 2015، حين انتشرت صورة دي ميستورا مشاركاً في احتفال نُظّم في دمشق لإحياء عيد الثورة الإيرانية، في فترة كانت سِمتها ولا تزال مشاركة إيران مباشرة في الحرب السورية إلى جانب النظام.
”
عام 2015، انتشرت صورة لدي ميستورا مشاركاً في احتفال نُظّم في دمشق لإحياء عيد الثورة الإيرانية
”
لم يجد دي ميستورا لتبرير مشاركته في الاحتفال سوى الإصرار على أنه كان مضطراً للحضور على اعتبار أنه “إنْ صدف أن كنتُ في أي مكان يجري فيه احتفال بالعيد الوطني لأي دولة عضو في الأمم المتحدة، فعليّ المشاركة”. لكن من غير المعروف إن كانت الصدفة نفسها التي يتحدث عنها دي ميستورا جعلته يقول بعد أيام فقط من تلك الواقعة، في نهاية مؤتمر صحافي جمعه مع وزير الخارجية النمساوي، سباستيان كورتس، إنه “على المعارضة السورية أن تأخذ بعين الاعتبار أنّ الرئيس السوري بشار الأسد قد يستمر في منصبه بظلّ عملية الانتقال السياسي”، على عكس ما نصّ عليه اتفاق جنيف1 للعام 2012.
لكن من المؤكد أن الصدفة لم يكن لها مكان في حقيقة أن النظام ارتكب، بعد دقائق من التصريح الشهير لدي ميستورا حول بقاء الأسد، مجزرة في دوما، كانت من الأكبر لناحية عدد الضحايا الذين سقطوا في استهداف سوق شعبي في المدينة. وكأن المجزرة جاءت كترجمة فورية للموقف الدولي الذي تكفّل الدبلوماسي الأممي بإعلانه ليصبح اليوم لسان حال عدد كبير من العواصم التي ظلت تدّعي، لسنوات، أنّ “على الأسد الرحيل”.
كانت تلك المرة الأولى التي يعرب فيها دي ميستورا، رسمياً، عن رؤيته إزاء بقاء الأسد ونظامه، لكن تصريحاته اللاحقة ستتكرر مراراً في السياق نفسه، وفي إطار مباشر وواضح، حتى وصل به الأمر إلى تقديم مجموعة من الاقتراحات الرسمية للمعارضة السورية ولمجلس الأمن الدولي، لإبقاء بشار الأسد ونظامه.
بعيداً عن حسن النوايا
في المقابل، يرى كثيرون أنه لا مكان لحسن النية في تقييم عامَين من عمل دي ميستورا في الملف السوري، إذ إن هذين العامين شهدا أشرس المحاولات، منه شخصياً، لإضعاف المعارضة السورية بشقّها السياسي، عبر إعطاء شرعية لوفود محسوبة على النظام وتدعي صفة المعارضة (مثل وفود موسكو، وحميميم، والأستانة، وسورية الديمقراطية، وسورية الغد).
في جميع الأحوال، يمكن لقراءة هادئة لعامين من عمل دي ميستورا وفريقه حول سورية أن تخلص إلى اعتبار أن النصف الثاني من العام 2014، أي منذ تسلم الرجل منصبه، شهد تحولاً كبيراً في الملف السوري، إذ كان نظام بشار الأسد على شفا الانهيار على الرغم من الدعم المقدّم بقوة من إيران وروسيا وحزب الله له. كما شهد ذلك العام ظهور تشكيلات معارضة سورية جديدة قريبة من النظام السوري وتحظى باعتراف من قبل حلفائه، وأصبح حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري للعمال الكردستاني) صاحب نفوذ كبير في شمال سورية. هذا ما انعكس سلباً على تمثيل المعارضة السورية والتي كانت تنحصر بـ”الائتلاف السوري” في حينها، قبل ولادة الهيئة العليا للتفاوض من العاصمة السعودية الرياض.
رؤية الحل تضمن بقاء الأسد
ولأنّ التقييم من خلال الوثائق يبقى غير قابل للتشكيك، فإن “العربي الجديد” حصلت على وثائق سرية سبق أن نشرتها، توضح رؤية دي ميستورا للحلّ في سورية. وتبيّن وثيقة بعنوان “مسودة الإطار التنفيذي لبيان جنيف” تقدّم بها دي ميستورا إلى دول مجلس الأمن الدولي، خريف العام الماضي، في الفقرة 51 من الملحق الرابع، أن المبعوث الدولي يسعى لضمان بقاء بشار الأسد في منصبه على الأقل في المرحلة الانتقالية. وتقول الفقرة: “إنّ وجود المرحلة التحضيرية يسمح ضمنياً باحتمال استمرار الرئيس في ممارسة بعض المهام خلال هذه الفترة، على الرغم من أن المسؤوليات الأساسية مثل الإشراف على الشؤون العسكرية والأمنية ستتولاها منذ البداية هيئة الحكم الانتقالي (والتي تكون الحكومة الحالية ممثلة فيها)”.
”
الفقرة 51 من وثيقة دي ميستورا: وجود المرحلة التحضيرية يسمح ضمنياً باحتمال استمرار الرئيس في ممارسة بعض المهام خلال هذه الفترة
”
ويكشف المصدر الذي سلّم الوثيقة لـ”العربي الجديد” أن فرنسا هي الدولة الوحيدة دائمة العضوية في مجلس الأمن التي رفضت الوثيقة. وبناءً على ذلك، وضع دي ميستورا مسودة جديدة حذف فيها الفقرة (51) وبعض البنود الأخرى ليجعل مصير الأسد غامضاً في الدراسة الثانية بذكر “الحفاظ على الصلاحيات البروتوكولية” للرئيس، والتي تم تسليمها في ما بعد للأطراف السورية عبر ورقتَين، والتي تم تسريبها لاحقاً.
هذا ما يفسر رفض المعارضة السورية بشقَّيها العسكري والسياسي (الممثل بالائتلاف الوطني آنذاك) لمجموعات العمل الأربع (السلامة والحماية، مكافحة الإرهاب، القضايا السياسية والقانونية، وإعادة الإعمار)، في ذاك الوقت، لأنه ساد انطباع لدى المعارضة السورية المشاركة في مفاوضات جنيف اليوم، أن المبعوث الدولي يسعى لإيصال نتائج المفاوضات إلى صيغة الإطار العام التنفيذي المذكورة في الوثيقة، بحسب مصادر متقاطعة من داخل الهيئة العليا للتفاوض. انطباع عام سائد منذ بدء الجولة الأولى من المفاوضات، وزادت على ذلك رغبة دي ميستورا بتعدد الوفود لتمييع موقف المعارضة السورية، وتمرير قرارات لا تقبل بها الهيئة العليا للمفاوضات.
وتنص “مسودة الإطار التنفيذي لبيان جنيف” على أربع مراحل لتحقيق الحل السياسي في سورية: الأولى تكون عبر الدعم الدولي والإقليمي لجهود المبعوث الدولي، وتوفير منصة سياسية لمناقشة التسوية السياسية والحرب على الإرهاب. والثانية هي مرحلة التفاوض سواء من خلال المحادثات غير المباشرة أو المفاوضات المباشرة، وبالمساعدة الفعّالة من الأمم المتحدة. أما المرحلة الثالثة، فهي “الانتقال” عبر تشكيل هيئة حكم انتقالية تقسم إلى جزءين: الأول تحضيري والثاني كامل، بحيث تتمتع فيه هيئة الحكم الانتقالي بسلطات تنفيذية كاملة (مع إمكانية استثناء السلطات البروتوكولية). أما المرحلة الرابعة والأخيرة وهي الحالة النهائية، فيتم فيها تطبيق مخرجات الحوار الوطني والمراجعة الدستورية، وتُجرى انتخابات تشريعية ورئاسية برعاية الأمم المتحدة، وبدعم فني.
مقترحات جنيف
خلال الجولة الثالثة من مفاوضات جنيف (إبريل/نيسان 2016) طرح دي ميستورا الذي يتقن سبع لغات، مقترحات عدة لوفد الهيئة العليا للمفاوضات وبقية شخصيات المعارضة الذين حضروا مفاوضات جنيف بصفة استشارية. المقترح الأول تم عرضه على وفد الهيئة العليا للمفاوضات، ويقضي ببقاء بشار الأسد مع تعيين ثلاثة نواب له تختارهم المعارضة السورية بصلاحيات كاملة، مع بقاء الصلاحيات البروتوكولية لرئيس النظام. وبحسب مصادر خاصة من داخل المعارضة السورية، فإن هذا الطرح قدّمه أحد رموز ما يسمى بمعارضة موسكو، قدري جميل، للمبعوث الدولي خلال إحدى الجلسات.
”
اقترح دي ميستورا تعيين ماهر الأسد بدلاً من شقيقه بشار
”
كما اقترح دي ميستورا على شخصيات معارضة أخرى، بحسب مصادر موثوقة تحدثت لـ”العربي الجديد”، تعيين ماهر الأسد بدلاً من شقيقه بشار، “لضمان عدم تفكك المؤسستَين الأمنية والعسكرية، وترك فراغ في السلطة يتيح لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) التمدد في البلاد”، بحسب تبرير دي ميستورا لطرحه. طرحان لم تجد فيهما المعارضة السورية اختلافاً كبيراً عن مضمون الورقة التي قدّمها رئيس وفد النظام إلى جنيف، بشار الجعفري، في وقت سابق من الجولة نفسها، والتي تضمنت مقترحاً بـ”تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم المعارضة مع بقاء الأسد”.
تمييع المعارضة السورية
انطلقت فكرة دي ميستورا لضرب شرعية وفد الهيئة العليا للمفاوضات منذ طرح فكرة “مجموعات العمل الأربع”، تحت مسمى الحوار السوري ــ السوري، أواخر العام 2014، حين دعا أربعين جهة معارضة من بينها الائتلاف الوطني، وهذا ساعد على تفكيك المعارضة السورية وتفتيتها بشكل كبير. ومع رفض الائتلاف الوطني والفصائل العسكرية حضور جلسات “مجموعات العمل”، تم طرح مفاوضات جنيف من جديد، واجتمعت الدول المعنية بالملف السوري في فيينا (أكتوبر/تشرين الأول 2015) ووضعوا توصيات لمجلس الأمن لدفع العملية السياسية في سورية، وصدر بعدها القرار الدولي رقم 2254.
”
حضر أمير سابق في تنظيم “داعش”، ماهر الأحمد، من ضمن معارضة “حميميم”، الجولة الثالثة من المفاوضات
”
وبعد انطلاق المفاوضات، استدعى دي ميستورا أطرافاً معارضة محسوبة على روسية بصفة استشارية، وهم من مؤتمرات موسكو والقاهرة والأستانة، إضافة إلى تشكيل مجلس استشاري نسائي. كما استدعى أعضاء من معارضة “حميميم”، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني، في ظل تواصل لم ينقطع مع رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم.
أمير “داعش” ضيف دي ميستورا
تكشف مصادر من داخل المعارضة السورية التي حضرت مفاوضات جنيف في جميع جولاتها لـ”العربي الجديد” عن وجود أمير سابق في تنظيم “داعش” ضمن معارضة “حميميم” الذين حضروا الجولة الثالثة من المفاوضات، واسمه ماهر الأحمد، والذي كان في السابق ضابطاً في جهاز الأمن العسكري التابع للمخابرات السورية. وتضيف المصادر أن المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب واجه دي ميستورا بذلك، واكتشف أنه على علم مسبق بتلك المعلومة، لكنه التزم الصمت، واستمر بمقابلة معارضة “حميميم” ومن ضمنهم الأحمد. التحق الأحمد بصفوف تنظيم “داعش” مع بداية ظهور التنظيم، وبعد فترة وجيزة عُيّن والياً على البادية في منطقة حماة، وحمل لقب “أبو عبيدة”. وبعدها، أعلن انشقاقه وعقد مصالحة مع النظام السوري، ومن ثم أصبح ضمن صفوف “معارضة حميميم”.
العربي الجديد