كان نجيب شكاكاً لا يظهر علناً ويتنقل في موكب شديد الحراسة لقناعته بأن خصومه يسعون لاغتياله. وكان يطلب طعامه الخاص من دمشق لخشيته من أن يتم اغتياله بالسم. ومارس الإدارة بالخوف التي اعتقد أهل درعا أنها باتت من الماضي.
يشتهر العميد عاطف نجيب، ابن خالة الرئيس السوري بشار الأسد، بالتسبب بالاحتجاجات الشعبية عام 2011. وهنا، يرسم الكاتب صورة للضابط الذي كان رئيس شعبة الأمن السياسي في درعا “مهد الثورة السورية”.
قبيل توريث بشار الأسد حكم سوريا عام 2000، اتصل ضابط مخابرات بتاجر دمشقي طالباً “خوّة” قدرها ثلاثة ملايين ليرة سورية (60 ألف دولار أميركي). وضّب التاجر حقيبته وغادر البلاد إلى الولايات المتحدة الأميركية هرباً من ابتزاز الضابط “الفجعان”. وعام 2011 لم تُفاجئ التاجرَ احتجاجات مدينة درعا. لكنه ما كان يصدّق أن من سبب ذلك هو الشخص الذي خرج بسببه من سوريا. إنه ابن خالة الرئيس، عاطف نجيب.
يصف التاجر العميدَ نجيب بـ”الانتهازي من الطراز الرفيع” ويضيف: “استدعاني مطلع التسعينات إلى مكتبه في حي الميسات، معتذراً عن ابتزازي مالياً من قبل أحد مرافقي الرئيس حافظ الأسد. الكل في المخابرات يَرهَبونه فقد كان شبّيحاً على الشبّيحة. لاحقاً بدأ بابتزازي بصفاقة. الله وكيلك صار لازم إصرف عليه وعلى بيتو وعيلتو كلها”.
معاناة التاجر لم تكن فريدة فقد طاولت قبضة نجيب آخرين. عام 1995 نفد صبر رجل الأعمال محمد مأمون الحمصي من نجيب. قال الحمصي إن نجيب حاول “إذلاله وأهلَه والاعتداء عليهم”. وذات ليلة، وفي “ساحة الشهبندر” في دمشق، صادف أن حاول نجيب مضايقته بسيارته، فترجّل الحمصي شاهراً بندقية كلاشنيكوف. “قلت له دافع عن نفسك. كان بحوزته مسدس كولت. لكنه لم يكن رجلاً ليستخدمه. ولو أمسكه، لأفرغت البندقية في رأسه.”
عام 2001 اعتقلت السلطات الحمصي، الذي كان نائباً في مجلس الشعب، ونزعت عنه الحصانة البرلمانية، ثم حكمت عليه بالسجن خمس سنوات بتهم من بينها الاعتداء على السلطات وإثارة النعرات الطائفية المذهبية.
بطش وحصانة
ذات أمسية من صيف عام 2011، وتحت إضاءة خافتة، استرخى عاطف نجيب يدخن بهدوء سيجار “مونته كريستو” ويحتسي مشروب “غولد ليبل” في مقهى “النيربين” في فندق “شيراتون” في دمشق.
زاد وزنه قليلاً لكن مظهره يوحي بأنه أصغر من عمره. رياضي في منتصف الأربعينات. حذاء إيطالي مصنوع يدوياً، وبدلة “BOSS” سوداء من غير ربطة عنق، وسلسلة ذهبية حول رقبته تظهر من تحت قميصه الأبيض الذي فتح أزراره العليا. ساعة “رولكس” مرصعة بالألماس تلمع حول معصمه كلما رفع الكأس. وبالقرب من منفضة السجائر ترك هاتفاً جوالاً ومسبحة عاجية. إكسسوارت لن تخفف من نظرته العدوانية وملامحه الصلبة التي أحاطها بلحية خفيفة مشذبة بدقة لتبرز فكّه.
كان يفترض حينها أن نجيب خاضع للتحقيق أمام لجنة قضائية مستقلة تنظر في تورطه في عمليات قتل وتعذيب. لكن ليلته مضت بهدوء، فمن ذا الذي يجرؤ على الاقتراب من ابن خالة الرئيس؟!
وعلى رغم دوره في إشعال الثورة، بقي سجله المهني متواضعاً. فحين عُيِّن في درعا، لم يقتصر ابتزازه على رجال الأعمال والأثرياء، بل تسلّط على البسطاء من العامة أيضاً.
ومطلع عام 2011، قمعت المخابرات احتجاجات معارضة في بقاع عدة من سوريا. بيد أن غطرسة نجيب تجاوزت في درعا عتبة الانفجار حين أهان وجهاء زاروه في الأمن السياسي في منطقة “درعا المحطة”. رفض طلبهم بإطلاق سراح 18 فتى احتجزهم أواخر شباط/ فبراير بسبب كتابتهم شعارات سخرت من الرئيس على حائط مدرسة. قال نجيب بحزم: “انسوهون!”.
ويعترف موالون للأسد بأن “اثنين أو ثلاثة” من الموقوفين “الشباب” تعرضوا للتعذيب، وأن نجيب أخبر زواره أن فشلهم في تأديب أولادهم حدا به للقيام بالمهمة بنفسه. وتقول رواية أخرى إنه أخبر الوجهاء أن عليهم أن يرجعوا إلى منازلهم وينجبوا أطفالاً آخرين، فإن كانت تنقصهم الرجولة، فعليهم إرسال زوجاتهم إلى مكتبه، وسيضمن أنهن سيغادرن وهن حوامل. ومن السذاجة الظن أن نجيب لم يدرك أنه تجاوز ما لا يمكن أن تقبله كرامة الحوارنة.
رداً على ذلك، اندلعت احتجاجات 18 آذار/ مارس مطالبة بإقالة نجيب ومعاقبته. وردت قواته بإطلاق النار على متظاهرين، ما أسفر عن مقتل أربعة منهم. كانت تلك بداية ثورة شعبية انقلبت شلال دماء أتم عامه العاشر، وسقط على إثره أكثر من نصف مليون شخص.
عانى أهالي درعا من مظالم كثيرة لم تصل بهم إلى ثورة. فقد ذاقوا ويلات فساد المحافظ الأسبق، وليد عثمان، والذي تزوجت ابنته من رجل الأعمال القوي، رامي مخلوف، ابن خال الأسد. ومع أن الرئيس حافظ الأسد أزاح عثمان عن منصبه، إلا أن بشار عينه لاحقاً سفيراً لسوريا في رومانيا حيث انفجرت ملفات فساده دولياً.
بيد أن نجيب كان شخصية مكروهة. ومع أن السوريين لا يعرفون صورة له، صار اسمه متداولاً بعد إقرار رئيس شعبة المخابرات العسكرية في ريف دمشق، رستم غزالي، في اجتماع شعبي أواخر آذار 2011 بقضية الأطفال الذين اعتقلهم نجيب. وقال غزالي: “الأطفال الموقوفون في دمشق أو هنا في درعا… أمر سيادته (بشار الأسد) بإخلائهم فوراً وأعتقد أنهم أُخلوا…”.
وعلى رغم ذلك تحولت الاحتجاجات إلى ثورة ضد بشار لأنه لم يتصرف كما كان متوقعاً منه. فقد اتهم عضو مجلس الشعب، يوسف أبو رومية، أواخر آذار 2011 العميد نجيب بـ”إثارة الفتنة”. وقال في تسجيل مصور مسرب من جلسة برلمانية: “ما حصل في حوران ليس ضد بشار الأسد، وإنما رعونة العميد عاطف نجيب، الذي استدعى قوات الأمن بطائرات الهيليكوبتر ونزلوا فوراً لإطلاق النار على المواطنين”.
نقلا عن وكالة درج